عالم النفس الشهير كارل يونج تحدث عن طريقتيْن يتعامل بهما الإنسان في مواجهة الصدمات، إمّا الانعزال وعدم المواجهة، ومن ثم الفشل في مجابهة التحدّي، والانهيار أمام الصدّمة، أو المواجهة الإيجابية للصدمة، وبحث طرائق إدارتها، ثم تجاوزها.
قام الفيلسوف والمؤرخ البريطاني الكبير «أرنولد توينبي» بنقل النظرية من «علم النفس» إلى «علم التاريخ»، فدرَس الحضارات على أساس مدى نجاح أي حضارة في الاستجابة للتحدي، وابتكار آليات للمواجهة وعدم الاستسلام إلى حين التجاوز والبقاء، أو عدم قدرتها على الاستجابة، وبدء مرحلة التدهور والاندثار.
في العصر الحديث.. كان تقدُّم أوروبا الكبير صادماً للعالم، كانت المسافة شاسعة بين آسيا وأفريقيا والأميركتين من جهة وبين القارة الأوروبية القوية من جهة أخرى.
نجحت أوروبا في غزو الأميركتين، حتى تأسست الولايات المتحدة الأميركية وكندا على أثر الغزو البريطاني – الفرنسي، وتأسست دول أميركا الوسطى والجنوبية على أثر الغزو الإسباني – البرتغالي.
في أفريقيا وآسيا كان المستوى العسكري والتكنولوجي، والإبداع الصناعي والعلمي للاستعمار الأوروبي.. بمثابة الخيال للشعوب، التي وجدت نفسها في مواجهة حضارة غالِبة لا قِبل لها بها.
انهارت بعض النخب في البلاد التي جرى استعمارها، وراحت تبحث عن مناهج غير علمية لمواجهة هذا التحدّي الخطير، بينما ذهبت أخرى إلى المواجهة بدراسة الطرف الآخر، والأخذ بأساليبه وطرقه التي أوصلته إلى سطوته وقوته.
في روسيا كان القيصر بطرس الأكبر أشهر نموذج لمواجهة الغرب بالغرب، وعلى الرغم من اعتبار روسيا دولة أوروبية، إلاّ أن ما قطعته القارة غرباً كان سابقاً بمسافة هائلة لما كانت عليه روسيا.
أخذ بطرس الأكبر بدراسة أوروبا، ثم قرر الاستعانة بمنهج الغرب، وتكرار تجربته، حتى يمكن لموسكو المواجهة بالمعرفة ذاتها، وبناء القوة الذاتية.. بالخطوات والرؤى التي جرى بها بناء القوة الغربية.
في اليابان، وبعد مائة وخمسين عاماً، أخذت اليابان بالنهج ذاته، وقامت النهضة اليابانية في عهد الميجي، بالأخذ بالأساليب الغربية في التحديث، ومواجهة الغرب بالغرب.
في عام 1964، قام «أرنولد توينبي» صاحب موسوعة «دراسة للتاريخ» والتي تتشكّل من (12) مجلداً.. بإلقاء محاضرات عدة في مصر، وكان ذلك في جامعتيْ القاهرة والإسكندرية.
في كتاب «محاضرات أرنولد توينبي» التي ترجمها وحرّرها الدكتور فؤاد زكريا، يشرح الفيلسوف البريطاني رؤيته لذلك الطرح: قامت روسيا واليابان بمواجهة الغرب بمنهج وآليات الغرب، أي مواجهة العلم بالعلم والتكنولوجيا بالتكنولوجيا.. والحداثة بالحداثة.. حتى أن الاتحاد السوفييتي الذي تأسس عام 1922 في أعقاب اندلاع الثورة الشيوعية في روسيا، قام بمواجهة الغرب بأيديولوجيا مستوردة من الغرب، إذْ لم تكن النظرية الماركسية نظرية روسية، بل هي نظرية ألمانية – بريطانية، فكارل ماركس وانجلز ولدا في ألمانيا وأنتجا أعمالهما بفعل وجودهما في بريطانيا.
إذًا.. فإن مواجهة روسيا للغرب في عهد القياصرة كانت في الأخذ بالحداثة القادمة من الغرب، والمواجهة في العصر الشيوعي كانت في الأخذ بأيديولوجيا قادمة من الغرب. واليوم تمضي روسيا والصين في مواجهة الغرب بكل ما كان غربياً فقط فيما قبل.. لقد كان الأمر أشبه بالتالي: لا تفلّ الحداثة إلا الحداثة، ولا يفلّ الغرب إلا الغرب.
نقلا عن الاتحاد.