في عالم تتنافس فيه البلدان على النفوذ والسلطة على الساحة العالمية، تبرز أهمية القوة الناعمة كعنصر حاسم في القوة الإجمالية للأمة، وهي تشير إلى القدرة على استمالة وإقناع الآخرين من خلال الوسائل الثقافية والسياسية والاقتصادية والرياضية والفنية، بدلاً من الاعتماد على القوة التقليدية التي تتكون من القوة العسكرية والمعلوماتية والدبلوماسية والإمكانات الاقتصادية. فمع تزايد ترابط العالم، أصبح تأثير القوة الناعمة أكثر وضوحاً، ولا يمكن الاستهانة بتأثيرها على تشكيل العلاقات الدولية والأحداث العالمية. نتناول في هذا المقال مفهوم القوة الناعمة، وأهميتها في عالم اليوم، والاستراتيجيات التي تستخدمها دولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج يحتذى به في بناء قوتها الناعمة والاستفادة منها.
تسير دولة الإمارات العربية المتحدة، بخطى واثقة وبأسلوب علمي ومدروس، نحو تدعيم عناصر ومقومات القوة الناعمة للدولة، في عهد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، وذلك من خلال مبادرات واستراتيجيات سياسية واقتصادية وبيئية وتكنولوجية، تعمل على تعزيز ركائز الدولة من الداخل، بالإضافة إلى شراكات استراتيجية مع مختلف دول العالم من الخارج، ترفع من مكانة الدولة وتوسع من دورها شرقاً وغرباً، استناداً إلى ريادتها على صعيد المبادئ والقيم، مما ينعكس على القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة بالإيجاب. ويأتي هذا النهج استكمالاً لدور الوالد المؤسس، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في هذا المضمار، والذي تتسم مفرداته الداخلية والخارجية بالاستدامة والاستقامة، وفي القلب منها، سياسات ومبادرات الإمارات التسامحية، وأعمالها الخيرية والإنسانية، وفاعليتها الدولية التي تتسع لكل المجالات. وتعد استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة لمؤتمر المناخ «كوب 28» خير شاهدٍ على ذلك، بالإضافة إلى إسهامات الدولة الفاعلة في التصدي للأزمات العالمية الكبرى، كالتغير المناخي وجائحة كوفيد-19، ومبادراتها لحل أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية وغيرها الكثير.
أدوات القوة الناعمة
تهدف القيادة الرشيدة لدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى تعزيز هيبة ومكانة وسمعة الدولة في الخارج، لذا، أولت اهتماماً كبيراً بمفهوم القوة الناعمة، من خلال إطلاق «استراتيجية القوة الناعمة»، وتأسيس مجلس وطني للقوة الناعمة عام 2017، وعملت الإمارات على تطوير أدوات هذه القوة، من خلال منظومة مؤسسية شاملة تعظم المقدرات القومية للدولة، وتسهم في تحقيق أهدافها ومصالحها على المستويين الإقليمي والدولي. وينفرد النموذج الإماراتي في القوة الناعمة بأنه يرتكز على تاريخ وتراث عريقين، وثقافة تسامحية يشهد لها القاصي والداني، وعلى عمل خيري وإنساني يمتد إلى معظم شعوب العالم، وتقاليد عربية راسخة تُعلي من قيمة الأخوة الإنسانية على مستوى النظرية والتطبيق، وتنمية مستدامة تبني الإنسان وتعتني بالمكان في الوقت نفسه، بالإضافة إلى استراتيجيات كبرى في مختلف المجالات وشراكات استراتيجية مع مختلف الدول.
ويأتي إطلاق وثيقة الخمسين في سبتمبر2021، كإضافة كبرى للقوة الناعمة الإماراتية، حيث تضمنت هدفاً مركزياً يتعلق بترسيخ السمعة العالمية لدولة الإمارات. كما تضمنت المبادئ الثمانية للسياسة الخارجية، في عهد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، مبدأ تعزيز القوة الناعمة للدولة من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الوطنية على المستويات كافة. إذ يتميز سموه، بأنه مدرسة متجددة في الإبداع والابتكار تعبِّر عن نفسها برؤاه الثرية في الفكر والثقافة والعسكرية والاقتصاد والاجتماع والسياسة ومبادراته الخلَّاقة التي استطاعت أن ترسخ النموذج الإماراتي في التنمية والإدارة والحكم.
تحليل المفهوم
على الرغم من أن مفهوم «القوة الناعمة» يُعد من المفاهيم الحديثة في الحقل الأكاديمي وفي الخطاب السياسي والإعلامي، فإنه شهد انتشاراً واسع النطاق في الآونة الأخيرة، كمكون من مكونات قوة الدولة يعتمد على أساليب الجذب والاستمالة. وتعتبر القوة الناعمة، بهذا المعنى، مكملةً للقوة الخشنة «الصلبة» للدولة، حيث يُعرِّف جوزيف ناي، العميد السابق لكلية كيندي الحكومية بجامعة هارفارد، «القوة الناعمة» بأنها القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع، وتم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية. فيما يُعرفها كل من باسكال لورو وفرانسوا توال في كتابهما «الجيوبوليتيك»، بأنها قدرة الفاعل على أن يفرض نفسه كحامل لواء القيم الإنسانية وكنموذج جاذب للآخرين في التنظيم السياسي الاجتماعي. ومن التعريفات السابقة، يمكن أن نستنتج تعريفاً أوضح وأشمل للقوة الناعمة بأنها الوسائل والأدوات التي يستعملها فاعل سياسي (دولة، منظمة إقليمية، شركة، شبكة مجتمع مدني، فاعل من دون الدولة) للتأثير على الآخرين، ودفعهم إلى تبني وجهة نظره، عن طيب خاطر. وعليه، فإن القوة الناعمة تتضمن مجموعة قوى غير ملموسة تُعضّد مؤسسات الدولة وتجعلها أكثر تأثيراً وتمنحها قدراً من النفوذ، وتتركز تلك القوى في عدة مجالات سياسية وثقافية وتاريخية وحضارية واجتماعية ورياضية، بالإضافة إلى أنماط الحياة وصورة الدولة في الداخل والخارج.
هناك أمثلة عدة على استخدام القوى الناعمة للسيطرة فكرياً وثقافياً على العديد من دول العالم، فالولايات المتحدة تتمتع بحضور ثقافي قوي من خلال الموسيقى الشعبية والأفلام والأزياء، فضلاً عن جامعاتها التي تجذب الطلاب من جميع أنحاء العالم، واليابان استخدمت صادراتها الثقافية الفريدة، مثل الرسوم المتحركة، لإعطاء صورة إيجابية وجذب الأجيال الشابة في جميع أنحاء العالم، وفرنسا غالباً ما ترتبط بالأزياء الراقية والطعام حلو المذاق والفنون، وقد ساعدتها دبلوماسيتها الثقافية في الحفاظ على مكانتها كلاعب عالمي رئيسي، والصين استثمرت بكثافة في الدبلوماسية الثقافية، باستخدام معاهد كونفوشيوس للترويج للغة والثقافة الصينية، واستضافت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2008، والتي كانت استعراضاً لقوتها الناعمة، وألمانيا تتمتع باقتصاد قوي وغالباً ما يُنظر إليها على أنها رائدة في التكنولوجيا والابتكار، مما يساهم في صورتها الإيجابية وقوتها الناعمة.
أدوات ثقافية
وتُعد دولة الإمارات العربية المتحدة، وفقاً للتعريف سالف الذكر، النموذج الأكثر جاذبية للدول في الإقليم ومنافساً قوياً على مستوى العالم، فلقد قامت دولة الإمارات العربية المتحدة باستثمارات كبيرة في الدبلوماسية الثقافية، حيث عرضت تراثها الثقافي الفريد والحديث من خلال مبادرات عدة مثل متحف اللوفر ومتحف «جوجنهايم» في أبوظبي، واستضافت الأحداث الكبرى مثل المعارض العالمية والفعاليات الكبرى، بالإضافة إلى ذلك، وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها كمركز للأعمال والسياحة والتكنولوجيا، مما ساهم في صورتها كدولة حديثة وتقدمية. من خلال هذه الجهود وغيرها، تمكنت دولة الإمارات العربية المتحدة من تعزيز قوتها الناعمة وإعطاء صورة إيجابية للعالم حيث تُوظف توليفة متنوعة من أدوات القوة الناعمة، يأتي في مقدمتها الأدوات الدبلوماسية، والسلوك والخطاب الداعمين للشرعية الدولية وقيم التعايش السلمي والسلام العالمي، بالإضافة إلى جاذبية النموذج التنموي الاقتصادي الذي تتبناه القيادة الرشيدة بالإمارات. إذ يتميز نموذج التنمية الإماراتي بأنه متعدد المجالات وداعم للانفتاح على الأسواق العالمية. وفيما يتعلق بالنموذج السياسي، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة، برعاية سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، تقدم نموذج الاتحاد المرن، ونموذج دولة المستقبل، بشكل يلقى إشادة عالمية. وعلى الصعيد الثقافي، تُعد دولة الإمارات النموذج الأمثل لدولة التعددية الثقافية والتعايش السلمي بين الأديان والأعراق المختلفة، ويتصل بذلك مبادرة «بيت العائلة الإبراهيمية»، هدية الإمارات للعالم أجمع، كمبادرة فكرية ودينية لمحاربة الأفكار المتطرفة، تعكس إدراك القيادة الرشيدة لأهمية الدبلوماسية الإنسانية، والعمل الإنساني الدولي، باعتباره أحد مصادر القوة الناعمة الإماراتية.
وتجدر الإشارة إلى أن النموذج الذي تقدمه دولة الإمارات العربية المتحدة يتبوأ المرتبة الأولى إقليمياً بفارق كبيرٍ عن أقرب منافسيها، ويأتي في المرتبة الخامسة عشرة عالمياً، وفق «مؤشر القوة الناعمة العالمي» لعام 2022، ويشمل ذلك المؤشر العام 120 دولة، ويتكون من أحد عشر مؤشراً فرعياً، تشمل مجالات السياسة الداخلية والخارجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية. كما حققت دولة الإمارات تقدماً في مؤشرات نوعية مثل قوة التأثير والأعمال والتجارة والعلاقات الدولية وكفاءة الاستجابة لجائحة كوفيد-19، مما يعكس المكانة الكبيرة والسمعة الطيبة لدولة الإمارات في المحافل الدولية.
عناصر متعددة للقوة
وبتحليل هذه المؤشرات، فإن أداء دولة الإمارات، بقيادة صاحب السمو حفظه الله، قد حظي بالعديد من عناصر القوة في مختلف المحاور، يأتي في مقدمتها، تأثير إقليمي ودولي إيجابي هو الأكبر في المنطقة، واستقرار سياسي وتفوق اقتصادي يحظيان بتقدير كل دول العالم، ووجهة اقتصادية مميزة لتأسيس الأعمال والشركات وعقد اتفاقات الشراكات الاقتصادية، وكلها أمور تسهم في تعزيز القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة.
إضافة لما سبق، تشهد دولة الإمارات، بفضل القيادة الرشيدة، حفظها الله، تقدماً في محور «التعليم والبحث العلمي»، بشكل يمثل قيمة مضافة للقوة الناعمة للإمارات، ويرجع ذلك إلى تطور المنظومة التعليمية بالدولة، حيث شهدت هذه المنظومة قفزة نوعية في العام 2022، واحتلت المركز السابع عشر عالمياً، وأسهمت في اختيار العالم للإمارات لاستضافة الدولة النسخة الأولى لـ«حوار أبوظبي للفضاء»، والتي تم تنظيمها برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد وبمشاركة نخبة واسعة من صانعي القرار والمؤسسات والخبراء في قطاع الفضاء، من 50 دولة حول العالم.
وعلى صعيد العلاقات الدولية والدبلوماسية، تُعد دولة الإمارات الأكثر تأثيراً إقليمياً وعربياً، وواحدة من أهم الدول المؤثرة دبلوماسياً في العالم، ويرجع ذلك إلى سياسات ومبادرات القيادة الرشيدة، حفظها الله، التي تسهم في تعزيز السمعة الطيبة للإمارات في مساعدة الدول، بدليل أن الدولة جاءت في المركز الحادي عشر عالمياً عام 2022، في مؤشر الدبلوماسية، مقارنةً بالمركز السادس عشر عام 2021، ومن المتوقع أن تدخل دولة الإمارات في المستقبل القريب، بفضل جهودها المستمرة في الحفاظ على البيئة على المستويين الإقليمي والدولي، إلى قائمة الدول العشر الأوائل، من حيث التأثير الدبلوماسي. وفضلاً عن المؤشرات السابقة، جاءت الإمارات في المركز العاشر عالمياً والأول إقليمياً في مؤشر قوة التأثير، واحتلت المركز الحادي عشر عالمياً في مؤشر العلاقات الدولية، وفي المركز العشرين عالمياً في مؤشر السمعة الإيجابية، بالإضافة إلى المركز العاشر عالمياً في مؤشر التأثير الإيجابي، على الرغم من قلة عدد سكان دولة الإمارات العربية المتحدة مقارنةً بالدول التسع التي تسبقها في ذلك المؤشر.
مؤشرات جديدة
يُضاف إلى مؤشرات القوة الناعمة، التي تتفوق فيها دولة الإمارات، مؤشرات أخرى غير مدرجة على المؤشر العالمي، أولها قوة جواز السفر، الذي بات يُعد أقوى جواز سفر في العالم، من حيث عدد الدول التي يُسمح لحامله بدخولها، والمكانة الدولية المرموقة التي يحملها صاحب الجواز في أي دولة. ثاني هذه المؤشرات الجهود الإماراتية الحثيثة في مجال التغير المناخي في المنطقة والعالم، وتجلى أهم مظاهرها في إسناد تنظيم مؤتمر قمة المناخ القادم «كوب 28»، إلى دولة الإمارات، حيث أصبحت الإمارات عاصمة عالمية للمعارض والمؤتمرات الكبيرة والفعّاليات الدولية الكبرى، نظراً لخبرتها غير المسبوقة في تنظيم الأحداث العالمية، مثل «إكسبو 2020 دبي»، ومعرض الدفاع الدولي «آيدكس»، ومعرض دبي للطيران، وقمة مجالس الأجندة العالمية، القمة العالمية للحكومات، والقمة العالمية لطاقة المستقبل. كذلك أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة أهم الوجهات السياحية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومن أهم 10 وجهات سياحية في العالم، وتحافظ على مركزها المتقدم ضمن أسعد الأمم بحسب تقرير السعادة العالمي لعام 2020.
«دبلوماسية المضائق»
وثالث هذه المؤشرات، ما يمكن أن نسميه «دبلوماسية المضائق»، والتي تُركز على أمن الملاحة البحرية العالمية في ثلاثة مضائق أساسية، هي مضيق «هرمز»، ومضيق «باب المندب»، و«قناة السويس»، لتحقيق الأهداف الإماراتية. وتقوم دولة الإمارات بتحقيق هذه الدبلوماسية بكفاءة عالية، من خلال سياسات توازن بين تحقيق الطموحات الإماراتية خارج الإطار الإقليمي من جهة، والعمل على الحفاظ على الصورة الذهنية الدولية من جهة أخرى، ويتم ذلك من خلال الدور الدبلوماسي والاستراتيجي لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، حيث يرعى سموه، وبشكل دائم الحضور النشط والفعال للدور الإماراتي على مستوى الأمن البحري، الذي يرسي مبدأ الحوار المؤسسي بشأن أمن الملاحة البحرية، ويوسع من دائرة استثمارات دولة الإمارات وشراكاتها الاقتصادية وتمددها المقبول إقليمياً ودولياً في الشرق والغرب، بفضل قوتها الناعمة وقيادتها الرشيدة، حفظها الله.
في الختام، تعد القوة الناعمة جانباً مهماً من القوة الكلية لأي بلد وقدرته على تشكيل الأحداث العالمية. يشير مصطلح القوة الناعمة إلى التأثير غير القسري لدولة ما على الآخرين من خلال الاستمالة والإقناع، وغالباً ما يتم تحقيق الأهداف المرجوة من خلال الدبلوماسية الثقافية والمؤسسات الدولية والصورة الإيجابية. لم تستفد دولة الإمارات من القوة الناعمة كغيرها من الدول مثل الولايات المتحدة الأميركية واليابان وفرنسا والصين وألمانيا وغيرهم فحسب، بل تميزت بإضفاء طابع وتعريف جديدين للقوة الناعمة بإدراج مدخلات عدة لم تستخدم من قبل في تاريخ القوة الناعمة، وتمكنت بذلك من تحقيق الأهداف التي تسعى لها من خلال سياستها الداخلية والخارجية، وبناء التحالفات، وإعطاء صورة إيجابية للعالم.
نقلا عن الاتحاد .