أُطلق باحثون نموذج ذكاء اصطناعي جديد قادر على فك شفرة التسلسل والأنماط الهيكلية التي تُكوّن “اللغة” الجينية للنباتات.
يُعد هذا النموذج، المسمى PlantRNA-FM، الأول من نوعه عالمياً، وهو ثمرة تعاون بين باحثي النباتات في مركز جون إينيس وعلماء الحوسبة بجامعة إكستر في بريطانيا.
تم تصميم PlantRNA-FM لفهم وتفسير البنية والأنماط التي يتكون منها الحمض النووي الريبي، والذي يلعب دوراً حيوياً في جميع الكائنات الحية، إذ يحمل المعلومات الجينية وينظم وظائف بيولوجية معقدة مثل نمو النباتات واستجابتها للإجهاد.
ويتميز الحمض النووي الريبي بقدرته على تشكيل تراكيب معقدة تُعرف بـ”لغة الحمض النووي الريبي”.
معلومات وراثية
والحمض النووي الريبي RNA هو جزيء يحمل معلومات وراثية شبيهة بتلك التي يحملها الحمض النووي DNA، إلا أنه يتميز بمرونته وقدرته على التفاعل مع بيئته، حيث يُترجم الجينات إلى بروتينات وينظم العمليات الخلوية.
يتكون الحمض النووي الريبي من 4 “أحرف” جينية، تُعرف بالنيوكليوتيدات، التي تُرتب في تسلسلات تُشبه الكلمات والعبارات في اللغة البشرية.
ولا تقتصر لغة الحمض النووي الريبي على التسلسل فقط، بل تشمل الأنماط الهيكلية التي تتشكل نتيجة طي الجزيء.
وتلعب الأنماط دوراً حيوياً في تنظيم الوظائف البيولوجية، مثل التحكم في ترجمة الجينات إلى بروتينات، أو تفعيل استجابات النبات للإجهاد البيئي. على سبيل المثال، تستطيع بعض هياكل الحمض النووي الريبي المعقدة التفاعل مع عوامل بيئية مثل الحرارة أو نقص المياه لتغيير نشاطها.
تمثل أنماط الحمض النووي الريبي نظاماً حيوياً يُمكّن النباتات من التكيف مع الظروف المتغيرة. تعمل هذه الأنماط كرموز تنظم نمو النبات، تطوره، واستجابته للإجهادات مثل الجفاف أو الأمراض. من خلال هذه اللغة، يمكن للنبات أن “يترجم” الإشارات البيئية إلى تغييرات على مستوى الجينات، ما يعزز بقائه في بيئات قاسية.
وفي ظل التطورات الحديثة، أصبحت دراسة الحمض النووي الريبي وأنماطه الهيكلية محوراً للعديد من الأبحاث العلمية. باستخدام الذكاء الاصطناعي أصبح بالإمكان فك شفرة هذه اللغة المعقدة.
توفر هذه الأدوات قدرة هائلة على فهم الأنماط الجينية وتحديد وظائف الحمض النووي الريبي، ما يمهد الطريق لتحسين المحاصيل وتطوير نباتات مقاومة للتغيرات المناخية.
تم تدريب النموذج الجديد باستخدام مجموعة بيانات هائلة تحتوي على 54 مليار قطعة من المعلومات الجينية، تغطي 1124 نوعاً نباتياً حول العالم.
استخدم الباحثون منهجيات مماثلة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة مثل ChatGPT، لكن بدلاً من تعليم الآلة اللغة البشرية، تم تدريبها على فهم “لغة النباتات” المتمثلة في أنماط الحمض النووي الريبي.
مثلما يستطيع ChatGPT فهم لغة البشر والاستجابة لها، تعلم PlantRNA-FM قواعد وأنماط الحمض النووي الريبي، ما مكّنه من التنبؤ بوظائفه وتحديد أنماط هيكلية وظيفية دقيقة.
استخدم الباحثون PlantRNA-FM بالفعل لتقديم توقعات دقيقة لوظائف الحمض النووي الريبي، وتحديد الأنماط الهيكلية ذات التأثير على ترجمة المعلومات الجينية إلى بروتينات. وتم التحقق من صحة هذه التوقعات من خلال تجارب أكدت دور تلك التراكيب في تحسين كفاءة الترجمة الجينية.
وحسب المؤلف المشارك للدراسة “هاوبنج يو” الباحث في مركز جون إينيس، فإنه “بينما تبدو تسلسلات الحمض النووي الريبي عشوائية للعين البشرية، فإن نموذج الذكاء الاصطناعي الذي طورناه قادر على فك الأنماط الخفية بداخلها”.
تطوير التقنيات
ويقول الباحثون إن هذا النموذج هو البداية فقط، وإن العمل المستمر لتطوير تقنيات ذكاء اصطناعي أكثر تقدماً لفهم اللغات المخفية داخل الحمض النووي والحمض النووي الريبي في الطبيعة، مؤكدين أن “هذا الإنجاز يفتح أبواباً جديدة لفهم النباتات وبرمجتها بطرق مبتكرة، ما قد يؤدي إلى تحسين المحاصيل الزراعية وتصميم الجينات باستخدام الذكاء الاصطناعي”.
من المتوقع أن يُحدث نموذج PlantRNA-FM ثورة في المجال الزراعي والبيئي، من خلال تطبيقاته المستقبلية المتنوعة، إذ يُسهم في تحسين إنتاجية المحاصيل عبر فهم أعمق للغة الجينات النباتية، مما يمكّن من تعزيز جودة وكفاءة المحاصيل الزراعية. كما يفتح النموذج آفاقاً جديدة لتطوير نباتات قادرة على مقاومة الظروف المناخية المتغيرة، مما يعزز الاستدامة الزراعية في مواجهة التحديات البيئية.
كما يتيح استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تصميم جينات نباتية متقدمة، ما يُمكّن من توجيه الابتكار الوراثي بشكل دقيق ومؤثر. علاوةً على ذلك، يُعد هذا النموذج أداة دعم قوية للأبحاث المستقبلية في علم الوراثة النباتية وعلم الأحياء الدقيقة، ما يساهم في فهمٍ أعمق وآفاق أوسع لهذه العلوم الحيوية.
نقلاً عن الشرق