يرى البعض من المسلمين أن سبب تخلفنا وتأخرنا ورجوعنا للوراء هو البعد عن الدين وممارسة الشعائر الدينية، بل أكد البعض أن الإبتعاد عن العقل والتفكير العقلاني هو سبب ما نحن عليه الأن، بعد تحجيب عقولنا وتغييب منطقنا وإقصاء كل من إختلف معنا، والسير بخطى عمياء صماء نحو وقائع وأحداث وقعت منذ 1400 عاما وأسقاطها على الواقع الحالي، والتسليم بذلك على أنه الحقيقة الثابتة، رغم إنتهاء مدة صلاحيتها وإختلاف أحداث وأماكن تواجدها واستنساخها واستحضارها اليوم بالإدعاء بإنها إرادة الله ونصرة نبيه.
هذا وغيرها من المفاهيم الخاطئة المضللة هي من أسباب تخلفنا، فالعقل والمنطق ينسف كثيرا من الأحاديث الدينية والغيبيات المسلم بها.
كثير ممن يطلق عليهم علماء الدين والسلفيين يرفضون التطور العلمى وكل من يسعى لمواكبة العصر لأنها يدركون جيدا أن ذلك ستسبب فى ضياع هيبتهم، في عام 1984 دخل دكتور فؤاد زكريا في معركة صحفية مع الشيخ محمد متولي الشعراوي وكتب مقالا في الصحافة الكويتية بعنوان ” كبوة الشيخ” المفكر الراحل قال سأكتفي بضرب أمثلة سريعة كلها مستمدة مما سمعناها أو قرإناها للشيخ الشعراوي خلال شهر رمضان الأخير فهو يعرض في أحد برامجه التلفزيونيه رآيه في أخلاق المرآة والعلاقة بينها وبين الزي الذي ترتديه، فيقول أن المرآة يجب أن تكون مستورة حتى لا يشك الرجل في بنوة أبناءه منها، وهكذا يقرر الشيخ ببساطة شديدة أن المرأة المستورة أو المحجبة هي وحدها تنجب لزوجها أبناء يكون واثقا أنهم أبناءه، أما اذا لم تكن كذلك فالأمر موضع شك، وحين يعرض الشيخ الشعراوي نظرية أخلاقية كهذه، لا يملك المرء الا أن يشعر بالألم والحزن على نوع التفكير الذي يوصل الى مثل هذه النتائج، وهكذا تختزل المرآة كلها الى عنصر واحد هو الجسد والجنس، وننسى المرآة العاملة والمرآة المشتغلة بالعلم. وتناول دكتور زكريا مجالا أخر من مجالات اختلافه مع الشيخ الشعراوي فقال أما في ميدان العلم فكانت للشيخ صوالات وجولات سأكتفي منها بنموذج واحد استمعنا اليه جميعا وهو تفسيره للآيات المتعلقة بالسماوات والأرض والنظرية الفلكية التي عرضها علينا عرضا مفصلا وحدد فيها علاقة السماء الأولى بالثانية، والثانية بالثالثة، الى أخره، والأمر الملفت للنظر في هذا الحديث هو حرصه الدائم على الإقلال من شأن العقل والعلم الإنساني وإستمتاعه بتأكيد ضعف النظريات العلمية البشرية وتفاهتها، وأن علوم الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الصناعية كلها لا تساوي شيئا، وهنا لا يملك المرء الا أن يتساءل، لمصلحة من يقال هذا الكلام في بلاد تكافح من أجل اللحاق بركب العلم والتكنولوجيا؟ وماذا يكون وقع هذه الآيات على الأجيال الشابة الجديدة التي يعيش أعداد كثيرة منها في أسر مفتونة بالشيخ ومتقبلة لكل حرف يقوله وكأنه كلام لا يآتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ ألا يدري الشيخ أن مستقبلنا مرهون بالعلم؟
وبسبب تكرار هذا المنحنى المعادي لدور العلم في أحاديث وأشرطة العديد من الدعاه لاحظ دكتور زكريا أن الهجوم على العقل البشري واتهامه بالقصور أصبح ثمة من أبرز السمات المميزة للدعوات الإسلامية المعاصرة، ومن الواضح أن الكثير من الدعاء يتصورون أن الوحي الإلهي لم تصبح له مكانته في نفوس الناس الا على حساب العقل البشري، بحيث يتعين عليهم أن يحطوا من شأن العقل حتى يؤمن الناس بمكانة الوحي، وتلك أسوأ أساليب الدعوة، خاصة في هذا العصر الذي أصبح فيه العلم وغيره من منجزات العقل البشري حقيقة لا يملك أن يتجاهلها مخلوق، الم تكن بعض منجزات هذا العلم هي التي أذاعت شهرة الشيخ ونقلت أفكاره على أوسع نطاق عن طريق تكنولوجيا الطباعة والاذاعة والتلفزيون والكاسيت. ولكن اليس العقل الإنساني قاصرا محدودا فعلا؟ يجيب دكتور زكريا أن العقل البشري قاصر بلا شك ونظرياته واكتشافاته كثيرا ما تتناقض أو يتضح خطأها بمضي الزمن، ولكن عظمة هذا العقل تكمن في سعيه برغم ضعفه، الى أن يتجاوز نفسه على الدوام ومن المؤكد أنه نجح في ذلك الى حد غير قليل بدليل أنه نقلنا في قرن واحد من عصر الخيول الى عصر الصواريخ والطائرات الأسرع من الصوت ومن تكنولوجيا الحمام الزاجل الى تكنولوجيا ترانزيستور والعقل الالكتروني والتلستار. وأضاف زكريا فى مقاله أن عقلنا ما زال قاصرا وما زال يقف امام ظواهر كثيرة كالسرطان عاجزا مكتوف الأيدي ومع ذلك فأنه يحاول وكثيرا ما ينجح ولو بعد حين، متساءلا، من المستفيد من هذا التنديد بالعلم والعقل والسخريه من تلك الإنجازات العظيمة؟ إن أكبر ما يلحق الضرر بالدعوات الاسلامية المعاصرة هو حالة الجهل التي تنشرها بين أنصارها، والأدهى من ذلك أن هذا الجهل يبدو لأصحابه علما واسعا.
وتابع ” العلم الذي يساعد على التحكم في الطبيعة ليس بوسعه إثبات او نفي وجود إلهه أو ألهة، كما أن الدين والغيب لا يكون موضوعا للإثبات العقلي أو نفيه وهذا طبيعي لإختلاف طبيعة كل منهما. ولعل أهم فكرة ميزت الإسلام أنه إستند الى حقيقة الإله الواحد المحيط المنزه عن كل تشبيه فكان آن إبتعد الدين كفكر عن كل منافسة للعلم البشري بما هو علم سببي بالمادة وذلك يعني أنه مهما تضاعف التحكم البشري في الطبيعة عن طريق العلم فانه يبقى ضمن إطاره الذي يختص به وإن كانت العلاقة بين الدين والعلم تتحدث في الأسباب وارتباطها بهما، فإن صفة المؤمن أنه يبقى دائما مسلما بوجود ما يتجاوز الإنسان، ولكن هل يعني ذلك أنه سيقف ضد تقدم العلم حفاظا على مجال الإيمان، نادرا ما تجد شيخا أو رجل دين يمدح العلم وينسب اليه الفضل في تطور البشرية، وعندما يتحدث أحدهم في هذا المجال فانه لابد أن يشكك بالعلم وبقدراته على فهم العالم فهما صحيحا، واذا تمعنت في هذا الأمر لرأيت أن كلهم عادوا النظريات العلمية عند اكتشافها، ولكنهم عادوا وقبلوا بها تحت ضغط تطور الحياة ولا يتوقف الأمر على دين معين ولكنه يمتد لكل الأديان، لكن هناك من تخلى عن هذه المعاداة وهناك من يزال يعادى العلم وينكر فضله في تطور الحياة.
باختصار شديد يعادي هؤلاء العلم لأن هذا العلم فضح الكثير من خرافاتهم، كما انهم يعرفون جيدا أنهم كلما تقدم العلم كلما تراجعت مكانتهم وهيبتهم.
المفكر العربى على محمد الشرفاء كان حريصا فى كتاباته على حث الأمة العربية على ضرورة مواكبة التقدم العلمى والتكنولوجي، حيث كتب مقالا بعنوان « تخلف المسلمون عن المشاركة فى التطور العلمى نتيجة عدم اتباعهم للمنهج الإلهى » قال فيه أن تخلف المسلمون عن الركب الحضاري والمشاركة في التطور العلمي للإنسانية جاء نتيجة لعدم إتباعهم للمنهج الإلهي الذي يأمرهم بالتفكر والبحث العلمي، فأصبحوا مستهلكين لما يصدره الغرب من صناعات ومنتجات، بعد أن كان المسلمين في الطليعة يقودون التطور الإنساني، حدث ذلك التقهقر عندما إتبعوا الروايات بديلا عن الآيات.
أضاف إن الذين يتمسكون باجتهادات الأمم السابقة وما إعتمدت عليه من روايات إعتبروها حُجَّةً لآرائهم ومعتقداتهم، إذ مضت العصور تلو العصور، تحجر العقل فيها وإرتد الفكرُ خائفًا متراجعًا، حينما وجد أكثرُ الناس قد قَدّسوا أقوال من سبقهم وآمنوا بها إيمانًا يقينيًّا وتشربتْ بها عقولهم بما نقلوا لهم من رواياتٍ تُشجّع على الفتنة والتكفير والقتل وأصبح كل من يحاول أن يلتزم بفريضة الله بالتدبر في كتاب الله خائفًا مذعورًا من التهديد والانتقام من تسفيه لرأيه ومصادرة حقه، الذي منحه الله في التفكر والتدبر في ذاته وكونه وخلقه، وبذلك تحوّل شيوخ الدين إلى أوصياء على الإسلام، وأصبحوا يُحاربونَ كلَّ مَن يَتجرأ أن يُقيم فريضة التفكير، التي أمرنا الله بها في كتابه الكريم، حتى لا يكشف زيفهم، وحتى لا يُسقط ادعاءاتهم وتفسيراتهم التي تتعارض مع مراد الله في آياته لخير البشرية ليحتفظوا بما تحقق لهم من مكانة إجتماعية ترتب عليها تحقيق مصالح مادية، ظلّوا يُحاربون كلَّ مَن يحاول أن يتسبب في ضياع امتيازاتهم الدنيوية ويصدق عليهم قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَبِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَبِ اللَّهِ يَحْكُم بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) (آل عمران: (۲۳).
فقد وَضَعَ اللهُ سُبحانَهُ في خطابه الإلهي ، القرآن الكريم، القواعد التي تحدّد خارطة الطَّريقِ للإنسان في حياته الدنيا، وتُعِينُه على أداء واجِباتِ العبادة دون تناقض بينَ متطلبات الحياةِ الدُّنيا، والتكليف الإلهي، بعبادة الواحدِ الأحد، وأداء التكاليف الدينية، من صلاة وصيامٍ وزَكاةٍ وحَجِ، والتمسك بالتعاليم القرآنية وبالفضيلة والخلق الكريم والتعامل مع الناس بالرحمة والإحسان والتسامح والعدل وعدم ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
وتأكيدًا على ما ورد أعلاه يرسم الله للإنسان خارطة طريق لحياة الإنسان في قوله تعالى: ﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾ ( القصص: 77) وقوله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (83 القصص). فجمعت تلك الآياتُ مُلخَصًا لرسالة الإسلام أتاحت للإنسان التمتع في حياته الدنيا دون فسادٍ أو تغوّل على مسارٍ آخر في توازن يُحقق العدل المطلق بين ما يريده الله سبحانه من عباده، وبين رغبات ومتطلبات الإنسان في حياته الدنيا ضمن ضوابط المنهج الإلهي، وسوف يجزيهم الله خير الجزاء إذا اتبعوا قرآنه والتزموا بعبادته وطبقوا شريعته والتزموا بما جاء فى آياته من قيم الفضيلة والاخلاق السامية، وقد انتهت الآية الكريمة أعلاه بأمرٍ حكيم من رب كريم ” وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ المفسدين” (القصص).
وهذا التزام محدد، على الإنسان أن يتقيّد به في سلوك حياته وهو عهد وميثاق بين الله وعبده الذي اعتنق دين الإسلام ليُنشَرُ الأمن والمحبة والسلام بين الناس ويرتقي بتعامله مع الناس بالإحسان، معترفا بإحسان الله إليه فيقابله بالإحسان للآخرين شاكرا بذلك نعمة الله عليه، بهديه وتوفيقه، مرتقيا بالإنسان في سلوكياته، محققا الاطمئنان والرضا، فيعيش راضيًا مطمئنا بما قَسَمَ اللهُ له من نصيب، وما رزقه من نعمة، ولا يبغي على الناس.
إن المولى عز وجل جعل الناس شعوبًا مختلفةً، وقبائل متعددة، لا ميزة لأحد على الأخر، حيث يتطلب هذا التعدّد والاختلاف في الأعراف البشرية التعارف بينهم وتعلم لغة كل منهم ليتعاونوا فيما يُحقق لهم الخير والأمان والتقارب من خلال التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والصناعي والزيارات السياحية والاستطلاعية، للتعرف على ثقافات الشعوب وتبادل العلوم والمعرفة الإنسانية لجميع خلقه، وهو وحدَه سُبحانَهُ مَن يحكم على أعمالهم، ويُميز من يعمل صالحا أو طالحًا، فلا ميزة لأي إنسان على آخر إلا بما يقدمه من عمل صالح لنفسه ولمجتمعه، فلا حصانة لإحدٍ عند الله إلا من آمن بالله والتزم بتكاليف العبادات والمعاملات والعمل الصالح.
ويخاطب الله الناس بقولهِ سُبحانَهُ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (۳) (الحجرات).