أنزل الله تبارك وتعالى القرآن الكريم كتاباً خاتما ودستورا حاكما لكل العالمين أبداً إلى يوم الدين ؛ لذلك كان القرآن واجب الحفظ والصون من المساس به زيادة أو نقصانا من لفظه أو تعطيلا لتشريعاته وأحكامه.
ولما كان ذلك أمراً يفوق طاقة البشر فقد تكفل الله تعالى بذاته بحفظ كتابه العظيم وكلامه الكريم : ( إنا نحن نزلنا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون ) ، وقد قيَّض الله لهذا الحفظ الأدوات والأسباب والطاقات البشرية ممن نذروا أنفسهم لتلك المهمة الجليلة إيماناً واحتساباً ؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
ويُعدُّ الأستاذ علي الشرفا الحمادي المفكر العربي واحداً ممن شدُّوا الوَثَاق والتزموا الرباط تفانياً في خدمة القرآن الكريم والكتاب العزيز بالفكر والعمل جامعاً بين النظر والتطبيق سالكاً نفسه في زمرة أهل الفَلَاح الذين عيَّنهم الله تعالى في قَسَمه المجيد : ( والعصر إن الإنسان لفي خُسْر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) بأنهم جمعوا بين الإيمان القلبي واليقين العقلي وبين العمل التطبيقي والتنفيذي.
لأننا عندما نتتبع مجمل أعمال الحمادي نجده يبدأ قرآنيا ، ثم يدور مع القرآن دوماً لينتهي قرآنياً في منظومة متكاملة الجوانب من حيث الغايات والوسائل والمناهج بما يمكن معه أن نلقبه ب (رَجُل القرآن ).
إذ يدور مجمل نتاجه الفكري وأعماله العلمية والمؤسساتية والخيرية حول المحاور القرآنية التالية :
أولا : التمكين للرسالة القرآنية
وذلك بالعمل الدؤوب بوعي وبصيرة : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) على نشر رسالة السلام والقيم والمفاهيم والأصول الأخلاقية والمبادئ الإنسانية المقررة في الحقائق القرآنية باعتبارها الملاذ الآمن الذي يضمن التسامح والتعايش والتآخي والوئام بين البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأديانهم ومذاهبهم ، ذلك الملاذ الذي يُعيد البشرية إلى حالة الطبيعة الأولى والأخوَّة الإنسانية التي خلقها الله عليها : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ).
لأن هذه الرسالة القرآنية تستند إلى جواهر القرآن الثلاثة :
١. الطبيعة الإصلاحية والتربوية في بناء الإنسان ؛ ليكون خليفة حقيقياً لله في الأرض قائما بعمارتها وإصلاحها بما فيه خير البشرية والبيئة ، وبما فيه من تصحيح الوعي الديني الزائف والمتطرف الناشئ عن فقدان بوصلة الرسالة الهادية.
٢. القسطاس المستقيم الذي تضمنه القرآن الكريم ليكون ميزانا ومعيارا للمتدبرين والمتأملين ، وطريقا هاديا للسائرين : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )
مأمون الصواب والرشاد لمن رام التماس الحقائق وصحيح الغايات : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أَقْوم ).
٣. العاصم من القواصم
فهو حبل الله المتين واجب الاستمساك به ، فمن استمسك به أفلح ونجا ، وهو وحده القادر على جمع الصفوف وتوحيد الإرادات ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ).
ثانياً : الدفاع عن القرآن
جاء دفاع الحمادي عن القرآن الكريم بمنأى عن العاطفة والخطابية منهجياً يسلك طريق الإثبات والتفنيد على طريقة ابن حزم الظاهري.
فالإثبات من خلال إقرار وبرهنة حقائق ومفردات الرسالة القرآنية في شتى الجوانب الإيمانية والتشريعية والحياتية والاجتماعية والفكرية والإنسانية
والتفنيد جاء بواسطة التصدي لإبطال مزاعم المنكرين أو المشككين في طبيعة الرسالة القرآنية ومصداقيتها وأهليتها العصرية تشريعا وتنزيلا ، وكذلك التصدي لمحاولة التغول على سلطة القرآن التشريعية عقلا بالتأويل أو نقلا بالمرويات البشرية.
وهنا نلحظ جهده البارز في الطرح العصري لإثبات الإعجاز القرآني سواء من جانب التحدي القرآني المستمر للخصوم والمخالفين منذ أربعة عشر قرنا من الزمان تحديا عجيبا في نوعه التنازلي وليس التصاعدي المعتاد.
فقد بدأه القرآن بتحديهم أن يأتوا بمثل القرآن كاملا ، فلما أعياهم وأعجزهم التحدي نزل القرآن بالتحدي إلى عشر سور ، فلما عجزوا طالبهم بالمجئ بمثل سورة واحدة فعجزوا كذلك كما أخبرهم القرآن وأنبأهم بالعجز حاضرا ومستقبلا لكل من يحاول : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ).
أما جوانب الإعجاز القرآني الأخرى علمية وعقلية وبلاغية فيتناولها الحمادي على سبيل الإجمال والتفصيل بما يلائم كل مقام على حدة لتأكيد وإثبات إلهية التنزيل القرآني : (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ، وذلك تحقيقا لقوله تعالى: ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ).
ثالثا: تجلية عظمة التشريع القرآني
في هذا المحور يعمل الحمادي على تحقيق وتفعيل التوصيف الوظيفي للقرآن الكريم حسبما قرره الخالق صاحب التنزيل : (هذا بيانٌ للناس وهدى وموعظة للمتقين ) ، فالتوصيف الإلهي للقرآن على أنه هو ذاته البيان وليس على أنه يتضمن بياناً .
من هنا نهَجَ الحمادي نهْجَ المُجَلِّي لذلك البيان الشافي بما يتمكن معه المتابع والمفكر والمتعلم من إنفاذ الرسالة القرآنية بيُسْر وسلاسة وعن قناعة ويقين وبرهان ، وذلك من خلال الوجهين الواجبين في البيان الختامي للبشرية جمعاء ، وهما :
الوجه الأول : كمال التشريع القرآني
فالكمال والتمام القرآني قد قرَّره القرآن الكريم نفسه على نحو فريد ومعجز في سورة المائدة : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً ).
فبوفاة النبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع الوحي نظراً لاكتماله وعدم حاجة البشرية إلى كتاب أو تشريع آخر غيره سواء في الاعتقاد أو في العبادات أو الأحكام ، فهو الكافي دون سواه لهداية الإنسان والأخذ بيده إلى النور والتنوير العقلي والديني : ( كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ).
وهو كذلك أحسنُ الحديث : ( الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ) ؛ لذلك فهو يعلو ولا يُعلى عليه لفظاً أو نظماً أو حُكْماُ .
فقد أُنزِل القرآن ليكون حاكما مُحْكَماً مُحَكَّماً : ( إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اراك الله ) إذ إنه قد جاء بالحق متلبساً به مشتملا عليه مقرِّرا له فاستحقّ أن يكون الكتاب الإلهي بإطلاق ؛ لكونه في حاكِميته المُطْلقة قد جاء مهيمناً : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل ) هيمنةً شاملة على كل ماسواه من الكتب أو الآراء أو الفلسفات أو الاجتهادات والمرويات التي يعدها الحمادي تغوُّلا على سلطة التشريع القرآني ، فيما يصنّفه الحمادي ضمن أشكال هجْر القرآن الكريم التي أخبر القرآن بوقوع الأمة فيها : ( وقال الرسول يا ربِّ إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ).
الوجه الثاني : تكامل التشريع القرآني
لأنَّ القرآن الكريم قد جاء شاملة مختلف جوانب الحياة الإنسانية تشريعا وتنظيما بحُكم مهمته الخاتمة ( ما فرطنا في الكتاب من شيئ ) ذلك الشمول الذي خلع عليه سمة التكامل في التأسيس والبناء وكذلك في الإصلاح والإرشاد.
فإن الحمادي ينعى على مَنْ يظن أن التشريع القرآني قاصر على الجانب التعبدي الخاص بالشعائر والعبادات دون المقاصد والغايات خاصة ذات الارتباط الوثيق بين العبادات والأحكام وبين الأخلاق والسلوك والمعاملات ٠
فقد تضمن التشريع القرآني الأصول والأحكام العقائدية والتعبدية والأخلاقية على حد سواء ، بل ربط على نحو وثيق بين الأخلاق والسلوك وبين العبادات في أركان الدين الخمسة :
فالصلاة : ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ، والحج :(لا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج ) ، والزكاة للتطهير والتزكية : ( خذ من أموالهم صدقة تطهِّرهم وتزكِّيهم بها ) ، والصوم لأجل التقوى : ( كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ).
ثم جعل القرآنُ من الأخلاق لأول مرة في تاريخ الكتب السماوية دليلا ليس على الإيمان والتقوى فحسب بل دليلا على صحة النبوة وصدق الأنبياء ، فامتدح القرآن نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بغاية ما يتمنى بَشرٌ أن يُمتدح به من عظمة الأخلاق وانتفاء المنفِّرات الأخلاقية : (وإنك لعلى خلق عظيم ) ، ( ولو كنتَ فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ).
وقد استخلص الحمادي من هذه العناية القرآنية بالأخلاق أنها مما لا يتم الواجب التعبدي إلا بها ، ومن ثم فإن كمال التدين والإيمان والدين القيِّم لايتحقق إلا بالأخلاق.
رابعا : تحقيق الخيرية القرآنية
عندما دعا القرآن إلى مطلق التعاون على البِرّ : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ؛ لأجل تحقيق الخيرية الأممية : ( كنتم خير أمة اُخرِجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) .
أدرك الحمادي أن لا سبيل لتحقيق ذلك إلا بالعمل المؤسسي الخيري ، فأنشأ مؤسسة (رسالة السلام ) لتحويل الرسالة القرآنية بمضامينها وغاياتها ومقاصدها إلى واقع عملي ملموس يجسِّد تلك الرسالة في بناء الإنسان إعلاما وتعليما، بيانا وتبييناً ، وعياً وتوعية ، برهنة واستدلالا، نشرا وبلاغا للناس.
لذلك لم يقتصر دور المؤسسة على العمل بإقليم دون إقليم ، بل استهدفت المؤسسة التوجه العالمي توافقا مع طبيعة الرسالة العالمية للقرآن:( تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ).
فقد افتتحت المؤسسة مكاتب وأنشطة دورية وفصلية بقارات العالم الخمس كي تقوم بحق البلاغ القرآني كما يجب أن يكون البلاغ.