السنة قاضية على القرآن! قالها عدد من علماء القرن الثاني والثالث الهجري، وهذه المقولة لا تمثل مجرد رأي لعالم، بقدر ما وصفت ذاك القرن وما حصل فيه من تحول خطير وصل إلى الجرأة بأن يقال مثل هذه الكلمات دون استنكار شديد ممن حولهم، حتى أقصى ما استنكر عليه استبدال هذه اللفظة بكلمة أكثر لياقة لكرامة القرآن الكريم.
بل خصص الدارمي في سننه والمتوفى سنة (255هـ) بابا سماه “السنة قاضية على كتاب الله”، وروى كلام يحيى بن أبي كثير(129هـ):” السُّنَّةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ, وَلَيْسَ الْقُرْآنُ بِقَاضٍ عَلَى السُّنَّةِ”.
وقد اشتهر أيضا مقولة الْأَوْزَاعِيُّ(157هـ) وهو تلميذ بن أبي كثير قوله: “الْكِتَابُ أَحْوَجُ إِلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْكِتَابِ”، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: “يُرِيدُ أَنَّهَا تَقْضِي عَلَيْهِ وَتُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ”.
وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ(241هـ) عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَى أَنَّ السُّنَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ؛ فَقَالَ: “مَا أَجْسُرُ عَلَى هَذَا أَنْ أَقُولَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: إِنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ”.
إن ما شهده القرن الثاني والثالث الهجري من انكباب على الحديث، وانتقاما أيضا من المعتزلة وأهل الرأي، ولّد ردة فعل وصلت لإهانة كتاب الله تعالى، وتم تهميشه مقابل حركة ثورية في تدوين الحديث دون تمييز بين صحيح وسقيم، كما وصفهم بذلك من أنفسهم كمسلم في مقدمة صحيحه، ولكن الأخطر بأن تُوج هذا التحول الخطير بعد القرون الثلاثة الأولى إلى دين وراثي لبس لباس السلف الصالح وخيرية القرون، وحيث اتخذت الأمة التقليد والجمود مذهبا. وأصبحت المرجعية محصورة بأشخاص كفقهاء ومحدثين ومذاهب تمثل الإسلام دون كتاب الله تعالى.
والتهمة جاهزة لكل من يحاول الرجوع إلى السبيل السوي في حاكمية القرآن على كل أخبار الآحاد بحيث يقبل الموافق ويُرد المخالف.
يقول الدكتور عبد المجيد رحمه الله تعالى في كتابه الاتجاهات الفقهية:” أما المحدثون وغيرهم ممن ذهب إلى أن الكتاب والسنة في مرتبة سواء، أو أن السنة قاضية على الكتاب – فإنهم لم يأخذوا بمبدأ عرض الحديث على القرآن، بل هاجموه بشدة، ومنعوا أن يكون هناك حديث صحيح مخالف للقرآن، ويعبر ابن حزم عن رأيهم فيقول: «لَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِ خَبَرٍ صَحِيحٍ مُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ أَصْلاً، وَكُلُّ خَبَرٍ شَرِيعَةٍ فَهُوَ إِمَّا مُضَافٌ إِلَى مَا فِي القُرْآنِ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمُفَسِّرٌ لِجُمْلَتِهِ وَإِمَّا مُسْتَثْنَى مِنْهُ مُبَيِّنٌ لِجُمْلَتِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ».
وإن المرء ليعجب من أمة أنزل عليها كتاب الله تعالى بالحق والفرقان كأقوم هداية ثم تقضي عليه بأخبار آحاد مليئة بالشبه والمفتريات.