قال الدكتور عبد الله القيسي الباحث اليمني المتخصص فى اصول الفقه ومقاصد الشريعة، أن المفسرون اختلفو في معنى القيام في الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٥]، متساءلا ما هو المقصود بمس الشيطان في الآية؟.
وأوضح أن المفسرون اختلفو هل هو حالهم في الدنيا أم في الآخرة؟ والأقرب أنه حالهم في الدنيا، وأما التخبط فأُطلق على اضطراب الإنسان من غير اتساق، وتخبط الشيطان المرء جعْله إياه متخبطًا، أي متحركًا على غير اتساق.
يرى القيسي أن مس الشيطان ليس المعنى الشائع من زعمهم بتلبس الجن للإنسان، فذاك كلام لا أساس له، وكي نصل للمعنى القريب للمس في هذه الآية، يمكن أن نتتبع الآيات التي ذكرت مس الشيطان في مواضع أخرى، حيث جاء ذكر مس الشيطان مع أيوب عليه السلام ولم يفسرها أحد بالجنون ولا بدخول الجان فيه، يقول تعالى عن النبي أيوب: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾[ص:٤١]، فنسب أيوب الضر للشيطان، إما من باب التأدب مع الله بنسبة الخير لله والشر للشيطان، وإما لأن الشيطان بوسوسته لأهله قد أدى لوقوعه في النصب والعذاب، فأدى للتفريق بينه وبين زوجه، وأفسد بينهما، وذلك هو كل ما يستطيعه الشيطان، وهو ذات المعنى الذي جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾[الأنبياء: ٨٣]، أي أنه أصابه الضرر والمرض فدعا ربَه ليشفيه، فاستجاب له ربُه وكشف عنه الضرر، وأصلح الله ما بينه وبين أهله، أي زوجته.
وتابع استاذ اصول الفقه ومقاصد الشريعة ” كما جاء ذكر مس الشيطان في آية أخرى عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٠]، وقد فسروا مس الشيطان بالوسوسة، وعليه فإن المعنى ذاته ينطبق عليه الآية الأولى، فمس الشيطان هو وسوسته ومحاولة إضلاله، وليس له سوى ذلك شيئاً، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾[النحل: ٩٨-١٠٠]” .
أضاف أن خلاصة الآية هو أنها تشبّه حال آكلي الربا الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى صاروا مهووسين بجمعه، وجعلوه مقصودًا لذاته، وتركوا لأجل الكسب به جميع موارد الكسب الطبيعي، فخرجت نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم.
كما أشار القيسي الى قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)﴾ [المزّمِّل: 1-4]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[المزمل: 20].
يقول القيسي أن هذه الآيات من الآيات التي قيل فيها بالنسخ، فقد نُسخ وجوب قيام الليل الذي جاء في أول سورة المزمل بالنصف والثلث الى آخره، بما جاء في آخر السورة بما تيسر من القرآن، والمتأمل للآيات لا يجد فيها نسخاً، فالآيات الأولى خطاب خاص بالنبي عليه السلام بقيام الليل، قيل وجوباً وقيل ندباً، والآية الثانية ذكرت أنه امتثل ذلك القيام من الليل بحسب ما جاء في أول السورة، ” قم الليل=إن ربك يعلم أنك تقوم” ” نصفه-ونصفه” “أو انقص منه=وثلثه” “أو زد عليه=أدنى من ثلي الليل”، وذكرت أن هناك بعض المؤمنين قد تأسوا به في ذلك القيام، دون أن يتوجه لهم خطاب بذلك، ثم خاطبت المؤمنين بخطاب التخفيف (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي علم الله سبحانه أنكم لن تطيقوا ذلك كما النبي فخفف الله عنكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن، ثم ذكر بعض أسباب التخفيف، فهناك مَن يُعجزه المرض، وهناك من يتنقَّلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون من رزق الله الحلال، وهناك من يجاهدون في سبيل الله؛ فاقرؤوا ما تيسَّر من القرآن، قيل المقصود به التلاوة في الصلاة وقيل المقصود التلاوة ذاتها.
يوضح الباحث اليمني أن قيام الليل في الآية الأولى قيل إنه واجب على الخصوص للنبي عليه السلام، وقيل على العموم، وقيل إنه مندوب فقط إما على الخصوص، أو على العموم لجميع المؤمنين، فإن قلنا بخصوصية وجوبه على النبي عليه السلام فإن تلك الخصوصية استمرت بحقه ولم تنسخ، وإن قلنا بعموم الندب كانت الآية ترغيباً للقيام بين العزيمة كما في الآيات الأولى، والرخصة بما تيسر لمن كان له عذر من الأعذار كما في الآية الأخيرة، والأقرب خصوصيتها للنبي عليه السلام.