دخل العام الحالي، بالتزامن مع موجة تضخم عالمية، قد تكون أسوأ من حيث نتائجها المباشرة عالمياً، من تلك التي شهدها العالم في عامي 2008 و2009، فالموجة الحالية لا ترتبط مباشرة بالفقاعات المالية، وانهيار بنوك كبرى؛ بل بأزمة تجتاح معظم ديناميات الاقتصاد العالمي، ما يجعل من تأثيرها الأفقي أوسع نطاقاً، فإذا كانت الأزمة المالية في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، قد أصابت بشكل رئيسي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، فإن الأزمة الراهنة لا تعرف حدوداً جغرافية واقتصادية؛ بل إنها تظهر بشكل أوضح في البلدان الأقل انخراطاً في السوق العولمي.
تسريح موظفين بالآلاف من شركات كبرى، بهدف إعادة هيكلتها، وضبط النفقات، تلك هي السياسة التي يجري تطبيقها، في محاولة لعبور الأزمة الحالية بأقل الخسائر المالية، وتجنب حدوث أضرار بنيوية، قد تدفع الشركات لإعلان إفلاسها، وهو أمر بات متوقعاً خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، لتجنب ما هو أسوأ، في حال حدوث انهيارات كبيرة.
العملات الوطنية، في غير بلد في العالم، ومنها منطقتنا العربية، تشهد خسائر كبيرة يومياً في قيمتها، تجاه العملات الرئيسية، خصوصاً أمام الدولار، ما يعني عملياً، تدهور القيمة الشرائية للمواطنين، فقد خسرت بعض العملات في الأسابيع الماضية أكثر من نصف قيمتها، مع توقعات بخسائر أكبر، ما يجعل من محدودي الدخل أمام كارثة معيشية، وهم في الأعم الغالب موظفون في مؤسسات الدولة، لا يمتلكون مصادر دخل إضافية.
معدلات التضخم الحالية، بحسب صندوق النقد الدولي، وصلت في بعض الدول إلى أكثر من 20%، لكن هذا الرقم في الواقع هو أكثر من ذلك، في البلدان التي يقوم اقتصادها بشكل أساسي على الاستيراد، وتعاني نقصاً في مواردها الغذائية، ومن خلل مزمن في سوق العمل، أو الدول التي تشهد اضطرابات سياسية، مؤثرة بشكل بالغ في قاعدتها الإنتاجية، أو تعاني عقوبات دولية، وكل هذه الأسباب من شأنها أن ترفع من نسبة التضخم، وربما تقربها من الرقم الكارثي، المحدد عالمياً ب 50%.
في الصور التي يحتفظ بها أرشيف الإنسانية من الكساد الكبير في عام 1929، تظهر أعداد كبيرة من الناس، تفتّش في حاويات القمامة عن بقايا الطعام، لسد الرمق، والبقاء على قيد الحياة، لكن تلك الصور المعبّرة عن لحظة مؤلمة من تاريخ البشرية، عاودت الظهور بعد ذلك في بلدان أخرى، تحديداً في بعض بلدان إفريقيا، التي لا تزال الكثير منها تعاني حتى اليوم نقصاً كبيراً في الإمدادات الغذائية، وتعيش على المساعدات المقدمة من الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية، وقد أظهر تقرير صادر عن «أوكسفام» (منظمة دولية تعنى بالحد من الفقر في العالم) في 2021، أن 11 شخصاً يموتون من الجوع في العالم في كل دقيقة، يتركّز القسم الأكبر منهم في إفريقيا أولاً، ومن ثم في آسيا.
الموجة الحالية من التضخم، ستدفع بدول وشعوب جديدة إلى الجوع؛ إذ إن غياب إمكانيات مواجهتها، وعدم وجود استعدادات مسبقة للأزمات، مثل الصناديق السيادية، سيجعل العبور من الأزمة أمراً يشبه المستحيل، لكن الأسوأ هو ما ستتركه من نتائج على المديين المتوسط والبعيد، ما يعني نشوء ديناميات لتحوّل أزمة التضخم من كونها أزمة اقتصادية ومالية، إلى أزمة اجتماعية، وربما سياسية، فهي ستجعل عجز الأداء السياسي والاقتصادي مكشوفاً، ما يعني تراجع مستوى الرضا العام عن أداء الحكومات.
مع كل أزمة عالمية، يظهر الجوع كحوت يبتلع المزيد من الشعوب الضعيفة، لا يشبع من التهامها، في الوقت الذي يزداد فيه الإنفاق العسكري العالمي لمستويات غير مسبوقة، وتدخل الدول في سباق تسلّح جديد، بعد أن بدا أنه أصبح من مخلّفات الحرب الباردة، وبدلاً من العمل المشترك لحل الأزمات بالطرق السلمية، تعود الدول الكبرى إلى لغة القوة، في ظل تناقص الإحساس بالمسؤولية عن السلم العالمي.
أيضاً، لا تزال منظومة الاستبداد والفساد تحكم العدد الأكبر من دول العالم، الموجودة في معظمها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهي المرشّحة أكثر من غيرها لتكون الوليمة المنتظرة لحوت الجوع، الذي بدأ دورة جديدة من وليمته.
نقلا عن الخليج .