إشكالية المواطنة واحدة من أهم المشكلات التي تنطوي عليها الدولة الوطنية في العالم العربي، وتزداد حدة هذه الإشكالية في الدول الهشة/الفاشلة، بحسب تصنيفها الدولي، حيث تسود الفوضى الحياة العامة وتفقد الدولة ثقلها السياسي والمؤسساتي، كما هو قائم اليوم في أكثر من بلد عربي، حيث تظهر المواطنة كحالة ملتبسة إزاء تجذّر الهويات ما دون «المواطنية»، أو استحواذها على الحياة السياسية، فيغدو تعريف المواطنة في شكلها القانوني/
الإجرائي بلا قيمة فعلية للفرد/المواطن.
تسيّد الهويات الفرعية ما دون «المواطنية»، خصوصاً الهويات الطائفية، في دولة ما، يجعل بالضرورة من مفهوم المواطنة مفهوماً تابعاً، وليس مفهوماً سيّداً متسيّداً، فصيغة الديمقراطية «التحاصصية» على أساس طائفي، كما في لبنان والعراق على سبيل المثال لا الحصر تقيم عالم السياسة على أساس حزبي طائفي، فتصبح الأحزاب ممثلة لطوائفها، وتمارس وجودها السياسي من خلال تعبيرها عن طائفتها، كما يغدو مجمل الحياة السياسية صيغة توافق وتوازن بين الطوائف، وليست فضاء عاماً للتعبير عن مصالح ومشكلات المواطنين، بحيث يصبح هؤلاء المواطنون موجودين في صيغة ملتبسة بين «المواطنية» القانونية، وبين «المواطنية» السياسية، التي تصبح مجرد استطالة للتعبير السياسي الطائفي.
ليست فقط الدول المحكومة بدساتير وموازين قوى طائفية، تتراجع فيها المواطنة؛ بل أيضاً حيث يتقلص الفضاء العام السياسي، وما يتفرع عنه من فضاءات أخرى، خصوصاً حين لا تتبنّى الدساتير فصل السلطات الثلاث: التنفيذية والقضائية والتشريعية، وتكون السلطة التنفيذية صاحبة السلطة الفعلية، وهو ما يجعل المرجعيتين التشريعية والقضائية اللتين تحميان المواطنة منقوصتي السيادة، فتفقد المواطنة سندها في هاتين المؤسستين، المنوط بهما حمايتها من تغول السلطة التنفيذية على حقوقها.
تعبير الدولة الحديثة في سياق تطورها التاريخي، أصبح مرتبطاً ومتماهياً إلى حد كبير، مع مفهوم المواطنة، فالدولة الحديثة بطبيعتها وصيغتها الدستورية، وبآليات ممارسة الحكم فيها، هي دولة تعاقدية تقوم على إرادات حرة لمواطنيها، ليس عبر صيغة الجماعات والمكونات، وإنما بصيغة الفرد، منزوع منها أي حضور مباشر للأيديولوجيا، وغير مسيسة بتفسيرات مقيدة؛ إذ لا يتم ربطها بوطنية ما (من دون آل التعريف)، ولا يحق لأحد أن يمارس فوقية وطنية على آخر، كشكل من أشكال المزاودة الأيديولوجية.
منطق التعاقد بين المواطن والدولة الحديثة يتحدد في صيغة الحقوق، قبل صيغة الواجبات، وهذا التطور الذي شهدته صيغة المواطنة، هو تطور لافت، وهو ابن التجربة السياسية للدولة الحديثة، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، وفشل التجربتين النازية والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، وتسببهما في كوارث في بلديهما، وفي كامل القارة الأوروبية. وقد شهدت الدساتير في معظم الدول الأوروبية خطوات نوعية متتالية في هذا الاتجاه الذي يكرس حقوق المواطنة أولاً، ومن ثم الواجبات.
تقييم المواطنة في هذا السياق أصبح قابلاً للقياس عبر مؤشرات محددة، مثل حق الفرد في التعلم والسكن اللائق والخدمات الصحية، وعدم التعرض للإيذاء الجسدي، إضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية، وفي قلبها حق التعبير عن الرأي، وغيرها من الحقوق التي تُلزم الدولة بتحقيقها لجميع المواطنين من دون تمييز في ما بينهم، وفي مقابل ذلك تطالب الدولة مواطنيها بدفع الضرائب، والالتزام بالقوانين العامة، وما يحصل عليه المواطن من حقوق لا يتأثر بانتماءاته الدينية أو المناطقية أو مخالفته الرأي ومعارضته السياسية للسلطة، فهي موجودة بالأساس تعاقدياً، وفق صيغة التداول السلمي الديمقراطي.
قوة الدولة الحديثة لا تأتي فقط من خلال قوة ومكانة اقتصاداتها أو قوتها العسكرية؛ بل أيضاً من استقرارها السياسي، وقد بدا واضحاً خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، أن الدول المبنية على قيم المواطنة بدلالتها التعاقدية، هي الأكثر استقراراً، والأكثر قدرة على تجنّب حدوث أزمات سياسية حادة؛ بل وأكثر قدرة على إحداث تنمية مستدامة في القطاعات كافة.
المصدر .. الخليج الاماراتية .