كشفت دراسة جديدة، أجراها باحثون في جامعة “كوليدج كورك” (UCC) الإيرلندية، أن التدريب على التفكير النقدي يمكن أن يكون وسيلة فاعلة لتقليل ميل الأفراد إلى تصديق نظريات المؤامرة.
وتُعد هذه الدراسة الأولى من نوعها التي تقوم بالمقارنة المباشرة بين استراتيجيات مختلفة تُستخدم لتقليل الاعتقاد في نظريات المؤامرة، ووجدت أن العديد من الطرق المعتمدة حالياً ليس لها تأثير يُذكر، أو قد يكون لها تأثير سلبي على قدرة الأفراد على التمييز بين المعلومات الموثوقة وغير الموثوقة.
في العقود الأخيرة، انتقلت نظريات المؤامرة من الهامش إلى التيار الرئيسي، وأصبحت تؤثر بشكل متزايد على الخطاب السياسي والرأي العام.
ويمكن أن يكون للاعتقاد في هذه النظريات تأثيرات سلبية خطيرة على الصحة الشخصية، والاتصال الاجتماعي، والصحة العامة، وحتى المشاركة الديمقراطية.
ومع ذلك، لم تُجرَ سوى أبحاث محدودة لاختبار الأساليب الفعّالة التي يمكن أن تحد من الاعتقاد بهذه النظريات.
وتشير نظرية المؤامرة إلى اعتقاد أو تفسير لأحداث أو ظواهر معينة بافتراض أن هناك مجموعة خفية من الأفراد أو المنظمات تتآمر سراً؛ لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية على حساب العامة، وغالباً ما تُقدَّم هذه النظريات كبديل للتفسيرات الرسمية أو العلمية، إذ يعتقد المروجون لها أن المعلومات الحقيقية يتم إخفاؤها عمداً عن الجمهور.
انتشار التضليل في العصر الرقمي
تمتد هذه النظريات إلى مختلف المجالات، من السياسة والصحة إلى التكنولوجيا والفضاء، فقد تشمل مزاعم بشأن تزوير الانتخابات، أو تصنيع الأوبئة، أو التلاعب في الأسواق المالية، أو حتى إخفاء اتصالات مزعومة مع كائنات فضائية.
وتعتمد هذه النظريات غالباً على أنصاف حقائق أو شكوك عامة يتم تضخيمها دون أدلة علمية قاطعة، ما يجعلها جذابة للبعض الذين يشعرون بعدم الثقة في الحكومات أو المؤسسات الكبرى، بحسب الدراسة.
وتنتشر هذه الأفكار بسرعة في العصر الرقمي؛ بسبب منصات التواصل الاجتماعي التي قد تشهد انتشاراً للمعلومات المضللة.
وبينما قد تحتوي بعض المؤامرات على حقائق، فإن معظم نظريات المؤامرة تفتقر إلى الأدلة القوية، وتعتمد على التفسيرات العاطفية أو الانتقائية للأحداث، ما يجعلها تُسهم في انتشار الشك والخوف وتعزيز الانقسامات داخل المجتمعات.
ووجد الباحثون أن معظم الطرق التقليدية للحد من الاعتقاد في نظريات المؤامرة تحث الأفراد ببساطة على رفض جميع النظريات المصنفة كمؤامرة، دون القدرة على التمييز بين المعلومات الحقيقية والمزيفة؛ ونتيجة لذلك، قد يتم رفض نظريات المؤامرة غير الواقعية، ولكن في المقابل قد يتم أيضاً تجاهل النظريات المستندة إلى أدلة حقيقية، مثل “فضيحة ووترجيت”، أو “دراسة توسكيجي لمرض الزهري”.
وتسببت “فضيحة ووترجيت”، التي تُعتبر أكبر فضيحة سياسية في تاريخ الولايات المتحدة، في استقالة الرئيس الأميركي (الجمهوري) الراحل ريتشارد نيكسون، بعدما قرر التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس بمرشحه آنذاك جورج ماكجفرن في مبنى “ووترجيت”.
فيما كانت دراسة توسكيجي للزهري، عبارة عن تجربة سريرية “شائنة السمعة” أقيمت بين عامي 1932 و1972 عبر خدمة الصحة العامة الأميركية لدراسة التطور الطبيعي لحالات الزُّهري غير المعالج في الرجال من أصول إفريقية في ريف ولاية ألاباما، الذين أُخبروا أنهم كانوا يتلقون رعاية صحية مجانية من الحكومة الأميركية.
كما تم حرمان الرجال المصابين من البنسلين بعد أن أصبح هذا الدواء متاحاً في منتصف الأربعينيات، وظل محجوباً عنهم بعد مرور 25 عاماً، في انتهاك مباشر للتشريعات الحكومية التي كانت تفرض علاج الأمراض التناسلية، وتشير التقديرات إلى أن نحو 100 شخص من المصابين ماتوا بسبب مرض الزهري من الدرجة الثالثة.
نهج مبتكر
قدَّم الباحثون نهجاً مبتكراً يركز على تحسين مهارات التفكير النقدي، مما يساعد الأفراد على التفريق بين نظريات المؤامرة المعقولة وغير المعقولة بشكل أكثر دقة.
ويُعد التفكير النقدي عملية عقلية منهجية تهدف إلى تحليل المعلومات والأفكار بشكل منطقي وعقلاني، من أجل التمييز بين الحقيقة والادعاءات غير المدعومة بالأدلة.
ويعتمد على مجموعة من المهارات مثل “التحليل، والتقييم، والاستدلال، والاستفسار العميق”، إذ يسعى الشخص الذي يفكر بشكل نقدي إلى فهم المعلومات من مصادر مختلفة، وطرح الأسئلة المناسبة، والتأكد من صحة الحجج، واكتشاف التحيزات أو المغالطات المنطقية في التفكير.
ويساعد التفكير النقدي في اتخاذ قرارات مبنية على الأدلة بدلاً من العواطف أو المعتقدات غير المبررة، مما يجعله أداة ضرورية في مختلف المجالات، سواء في “العلوم، أو الإعلام، أو السياسة، أو حتى في الحياة اليومية”، كما يعزز هذا النوع من التفكير القدرة على حل المشكلات بطرق إبداعية وفعّالة.
واستخدمت الدراسة أداة جديدة تُسمى “تقييم التفكير النقدي حول المؤامرات”، وتختلف عن الطرق التقليدية التي تركز فقط على قياس مدى اعتقاد الأفراد بنظريات مؤامرة معينة، مثل فكرة أن هبوط القمر كان مزيفًا.
وبدلاً من ذلك، سمحت هذه الأداة للباحثين بتقييم كيفية تفكير الأشخاص وتحليلهم لنظريات المؤامرة بشكل عام، مما وفر فهماً أعمق للعمليات الذهنية الكامنة وراء هذا التفكير.
وأكد المؤلف الرئيسي للدراسة “كيان أوماني”، الباحث في كلية علم النفس التطبيقي، أن تعزيز التفكير النقدي بدلاً من التشكيك الأعمى هو الطريقة الأكثر فاعلية لمحاربة نظريات المؤامرة.
وقال: “تُظهر لنا أحداث مثل ووترجيت ودراسة توسكيجي أن بعض المؤامرات قد تكون حقيقية، لذلك من المهم ألا نُعلّم الناس رفْض كل شيء يُصنَّف على أنه نظرية مؤامرة. نهجنا الجديد يشجع على التفكير الدقيق والتقييم المتأني، بدلاً من التشكيك التلقائي. أثبت هذا التدخل نجاحه في مساعدة المشاركين على التمييز بين نظريات المؤامرة المعقولة وغير المعقولة”.
وذكرت الدراسة أن التدريب على التفكير النقدي أمر ضروري لمواجهة التضليل المنتشر على بعض وسائل التواصل الاجتماعي، ونظريات المؤامرة، والدعاية الزائفة، إذ يمكّن الأفراد من التمييز بين المعلومات الموثوقة والمعلومات المضللة، مما يسهم في بناء مجتمع أكثر وعياً وقدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة.
وأشارت النتائج إلى أن الأساليب النفسية الحالية تساعد في تحسين التفكير النقدي بشأن نظريات المؤامرة غير المعقولة، لكنها لا تساعد كثيراً في تقييم النظريات المعقولة، لذلك قد تكون هذه التدخلات تشجع ببساطة على “الرفض الأعمى”، بدلاً من تعزيز القدرة على التمييز.
نقلاً عن الشرق