سلَّطت دراسة حديثة، منشورة في دورية “نيتشر كومينكيشنز” Nature Communications، الضوء على الدور المحتمل لكبريتيدات الحديد في تكوين الحياة على الأرض البدائية، خاصة في ينابيعها الساخنة الأرضية، وفتحت آفاقاً جديدة للبحث عن حياة خارج الكوكب.
ووفقاً للباحثين، فإن هذه الكبريتيدات قد تكون قد حفَّزت تحويل ثاني أكسيد الكربون الغازي إلى جزيئات عضوية أولية، عبر مسارات كيميائية غير إنزيمية.
يتميز كبريتيد الحديد بوجود مواقع نشطة كيميائياً على سطحه، تمكنه من الارتباط بجزيئات ثاني أكسيد الكربون، والهيدروجين بسطح الكبريتيد، كما يحتوي أيضاً على إلكترونات حرة، أو قابلية عالية لتبادل الإلكترونات، مما يتيح لها تحفيز التفاعلات الكيميائية.
وتتم التفاعلات عبر خطوات كيميائية غير إنزيمية، أي دون الحاجة إلى إنزيمات بيولوجية.
عند تعرض ثاني أكسيد الكربون إلى سطح كبريتيد الحديد، يتم امتصاصه بواسطة المواقع النشطة على سطح الكبريتيد، مما يهيئه للتفاعل، وفي الخطوة التالية، يتفاعل الهيدروجين مع ثاني أكسيد الكربون، إذ يمد التفاعل بالطاقة اللازمة لاختزاله.
تحفيز التفاعلات الكيميائية
وخلال هذه العملية، يتحول ثاني أكسيد الكربون إلى جزيئات وسيطة، أبرزها أول أكسيد الكربون الذي يُعد خطوة أولى نحو التكوين النهائي، ومع استمرار التفاعل، يتم إنتاج جزيئات عضوية أكثر تعقيداً مثل الميثانول، أو مركبات كربونية أخرى، ما يعكس الدور المحوري لكبريتيد الحديد في تحفيز هذه التفاعلات الكيميائية الأولية.
وبحسب الدراسة، تلعب البيئة المحيطة دوراً حيوياً في دعم التفاعلات الكيميائية التي تحفزها الكبريتيدات، وتأتي الطاقة الحرارية من درجات الحرارة المرتفعة التي توجد في الينابيع الساخنة، إذ تتراوح بين 80 و120 درجة مئوية، مما يسهم في زيادة سرعة التفاعل، وتعزيز إنتاج المركبات العضوية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الطاقة الضوئية، خاصة من أشعة الشمس فوق البنفسجية، تعمل على تزويد الإلكترونات بطاقة إضافية تدعم هذه التفاعلات الكيميائية، وأما وجود بخار الماء في هذه البيئة، فيوفر وسطاً مثالياً، يحسِّن كفاءة التفاعلات، ويسرِّع من عملية التحفيز الكيميائي.
تتميز الكبريتيدات بقدرتها الفائقة على أداء التفاعلات الكيميائية، بشكل متكرر، دون أن تتحلل بسهولة، وهو ما يُعرف بإعادة التدوير الكيميائي.
كما أن الكبريتيدات تحاكي وظيفة الإنزيمات البيولوجية، من خلال دورها في نقل الإلكترونات، وتحفيز تكوين الروابط الكيميائية، مما يجعلها عوامل تحفيزية فعَّالة قادرة على دعم التفاعلات الكيميائية الأساسية لنشأة الحياة.
المسار العكسي لغاز الماء
تشير الدراسة إلى أن تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مركبات عضوية، يتم عبر المسار العكسي لغاز الماء، ففي هذا المسار، يُختزل ثاني أكسيد الكربون أولاً إلى أول أكسيد الكربون، والذي يتم تحويله لاحقاً إلى جزيئات عضوية بسيطة مثل الميثانول عبر تفاعلات كيميائية إضافية.
يلعب هذا المسار دوراً محورياً في تفسير كيفية إنتاج الجزيئات العضوية الأولية من مكونات بسيطة.
تشير هذه التفاعلات إلى تشابه كبير مع الأنظمة البيولوجية الحديثة التي تعتمد على إنزيمات مثل “نيكوتيناميد الأدينين ثنائي النوكليوتيد” (NAD+) -والذي يلعب دوراً حيوياً في التفاعلات الأيضية، إذ يساعد في نقل الإلكترونات والطاقة بين الجزيئات المختلفة.
وحسب الدراسة، يمكن اعتبار الكبريتيدات نموذجاً كيميائياً بدائياً لهذه الإنزيمات، مما يبرز أهميتها في المراحل المبكرة لتطور الكيمياء الحيوية التي سبقت ظهور الحياة على الأرض.
نشأة الحياة على الأرض
وتعزز الدراسة فهم دور كبريتيدات الحديد في التفاعلات الكيميائية الأساسية التي قد تكون ساهمت في نشأة الحياة، كما تشير إلى أن ينابيع المياه الساخنة الأرضية قد تكون موطناً رئيسياً للتفاعلات التمهيدية التي أدت إلى تكوين الجزيئات العضوية، وتفتح آفاقاً جديدة للبحث عن حياة خارج كوكب الأرض، إذ يمكن تطبيق الفرضيات على بيئات مشابهة في كواكب أخرى.
ونشأة الحياة على الأرض لغز علمي كبير، وقد طُرحت العديد من النظريات التي تسعى لتفسير كيفية تطور الحياة من مواد غير حيّة، وتتنوع هذه النظريات بين فرضيات تعتمد على الكيمياء والجيولوجيا والبيئات المختلفة التي كانت متوفرة على الأرض البدائية.
بعض العلماء يتبنون فرضية أن الحياة نشأت في بيئة مائية غنية بالمركبات العضوية البسيطة، وهذه المركبات قد تكون تكوّنت بفعل الطاقة الناتجة عن البرق، أو الإشعاع الشمسي، وتحوَّلت إلى مركبات أكثر تعقيداً مثل الأحماض الأمينية والسكريات، وقد دعمت تجربة ميلر-يوري في عام 1953 هذه الفكرة بإثبات أن مركبات عضوية يمكن أن تتشكل في ظروف تحاكي البيئة البدائية للأرض.
نظرية الفتحات الحرارية المائية
كما تشير نظرية أخرى، تُعرف باسم “الفتحات الحرارية المائية”، إلى أن الحياة قد بدأت في أعماق المحيطات قرب الفتحات الحرارية المائية.
وتقول إن هذه البيئات غنية بالمعادن والطاقة الكيميائية الناتجة عن تفاعلات بين الماء الساخن والمعادن، مما يخلق ظروفاً مواتية للتفاعلات الكيميائية العضوية، ويعزز اكتشاف كائنات دقيقة تعيش في هذه البيئات القاسية، اليوم، صحة هذه الفرضية.
“البانسبيرما” والتكرار الجزيئي
وتقول نظرية “البانسبيرما” إن الحياة أو مكوناتها الأساسية جاءت من الفضاء عبر نيازك، أو مذنبات. وتفترض أن الكواكب أو الأقمار الأخرى قد تكون وفّرت بيئات مناسبة لتطور الحياة البدائية، وتم نقل الجزيئات أو الكائنات الأولية إلى الأرض.
أما نظرية “التكرار الجزيئي”، فتقول إن الحياة بدأت بجزيئات قادرة على تكرار نفسها مثل RNA، وهو جزيء يمكنه تخزين المعلومات الجينية، وتحفيز التفاعلات الكيميائية، ويُعتقد أن RNA كان أول جزيء أساسي للحياة، إذ أدى دوره في التكرار والانتقاء الطبيعي إلى تطور الأنظمة البيولوجية المعقدة.
وهناك عدد آخر من النظريات التي تفيد بأن الحياة قد بدأت على الشواطئ حيث يتبخر الماء ويترك وراءه تركيزات عالية من الجزيئات العضوية، أو أن المعادن الموجودة في الطين عملت كقوالب لتجميع الجزيئات العضوية البسيطة، مما ساعد في تكرارها.
ورغم اختلاف النظريات، إلا أن كل منها يسلط الضوء على جزء من اللغز المتعلق بنشأة الحياة.
ومن المحتمل أن تكون الحياة بدأت من مزيج من هذه العوامل في بيئات مختلفة، إذ ساعدت الظروف المناسبة والتفاعلات الكيميائية المعقدة على تكوين الجزيئات العضوية التي أدت إلى ظهور الخلايا الحية الأولى.
نقلاً عن الشرق