وفي نفس الزمن البعيد أمسكت مجموعة قصصية لتوفيق الحكيم اسمها “أرني الله” وقرأتها، ثم توقفت عند قصته الأولى في المجموعة، وهي قصة أرني الله، وكانت القصة تدور حول رجل راشد وعاقل طيب السريرة، كان يحكي لابنه الصغير عن الله، فقال له ابنه في أحد الأيام: إنك تتحدث كثيرا يا أبي عن الله، أرني الله يا أبي، ولكن الأب الذي اعترته الحيرة قال لابنه، كيف أريك الله يا بني وأنا لم أره، فقال الإبن: اذهب يا أبي وابحث عن الله لتراه، ثم تريني إياه، لم يُرد الأب الطيب أن يكسر خاطر ابنه، فخرج يُحدِّث الناس عن رغبته في رؤية الله، ولكن الناس سخروا منه، أما علماء الدين فقد أنكروا عليه سؤاله، وردوا عليه بما يعرفونه من النصوص المحفوظة، فلم يجد عندهم بغيته، إلى أن ذهب لأحد الشيوخ فقال له الشيخ: ليس لك عندي إجابة، إلاَّ أن هناك رجلا من أولياء الله يعيش في أقصى المدينة، هذا الرجل لا يسأل الله شيئا إلا استجاب له، فاذهب إليه واعرض عليه حاجتك، وذهب الرجل الطيب للناسك وقال له أريدك أن تريني الله، ولكن الناسك قال له إننا لا يمكن أن نرى الله بأدواتنا الجسمانية، فليس البصر قادرا على تلك الرؤية، ولا القلب قادرا على ذلك، ثم ضرب له مثلا: أنت تستطيع أن تضع إصبعك في كأس صغير من الماء لتصل إلى قاعه، ولكن هل إذا وضعت ذات الإصبع في البحر تستطيع أن تصل إلى قاعه؟ فعاد الرجل يسأله: ولكن كيف أرى الله؟ رد عليه الشيخ بأنك سترى الله إذا تكشف هو لروحك، فسأله: وكيف يتكشف لروحي؟ قال الناسك: إذا ظفرت بمحبته، فطلب منه الرجل أن يدعو له الله لكي يظفر بمحبته، فرد عليه الناسك: لايستطيع كيانك كله أن يظفر بمحبته، فأخذ الرجل ينزل بأمنياته قائلا: إذن نصف محبته؟ لن تستطيع، جزء صغير من محبته؟، لن تستطيع، إذن ذرة من محبته؟ لن تستطيع، وانتهى الحوار بأن سأل الناسكُ اللهَ أن يهب هذا الرجل نصف ذرة من محبته، نصف ذرة فقط!.
فماذا حدث للرجل الطيب؟ دخلت قلبَه نصفُ ذرة من حب الله، فذهل عن نفسه، وغاب عن وجوده، وهام في الطرقات لا يتكلم مع أحد، ونسي ابنه وأسرته، وعندما عثرت عليه أسرته لم يشعر بوجودهم حتى أن الناسك الذي دعا له قال لهم: انظروا، كيف أن نصف ذرة من محبة الله دخلت قلبه فلم يتحملها عقله، ولم يقو عليها قلبه، والله لو قطعتموه بمنشار فلن يشعر. فجرى في خاطري: هل كان الحلاج مثل هذا الرجل، والله لو كان الأمر كذلك لكان حريا بي أن أعيد قراءة ما وصل إلينا من سيرته وكلماته .