برغم ما يُشاع من أن إسرائيل حاضرة بقوة في المشهد الأميركي العام، وفي دوائر صنع القرار، سواء في الكونجرس أو مجلس الشيوخ، وداخل أجهزة صنع المعلومات والخارجية على وجه الخصوص، إلا أن ما يجري في الوقت الراهن من تطورات في مسارات، واتجاهات العلاقات الأميركية الإسرائيلية، يشير إلى عكس ذلك.
ويبدو أن هناك تغييراً لافتاً في نمط العلاقات بدليل عدم توجيه الدعوة الأميركية المعتادة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، ولقاء الرئيس جو بايدن، كما كان يحدث عقب كل انتخابات إسرائيلية، ويتم توجيه الدعوة مباشرة للرئيس الإسرائيلي كبديل استثنائي، ولأول مرة منذ سنوات طويلة. وهذا يشير إلى أن اللوبي اليهودي، خاصة منظمة «إيباك»، كبرى المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، فشلت في دفع البيت الأبيض لتوجيه الدعوة لنتنياهو كما هو معتاد خاصة. وينطوي هذا المشهد على سابقة في نمط العلاقات، وقد يؤدي إلى حالة توتر مستمرة في العلاقات الأميركية
الإسرائيلية تضاف إلى حالة التجاذب في ملفات أخرى، وتقبل الطرفين لحدود وأطر التباين، سواء في الملفات الداخلية والخارجية، ومنها أزمة الإصلاح القضائي، وحدود تأثيراتها على النموذج الإسرائيلي في الحكم، ومفهوم الديمقراطية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، والتخوف من هيمنة «ليكود» والأحزاب اليمينية المتطرفة على الحكم، واستمرار مكونات الائتلاف في تنفيذ مخطط الشراكة بالكامل، خاصة في القضايا محل التباين، ومنها ما يجري من مخططات مستقبلية في القدس (الشروع في تنفيذ خطة 2050)، واستئناف سياسة الاستيطان والممارسات غير المسبوقة في القدس، والمساس بوضع المقدسات الإسلامية، إضافة إلى استمرار الجدال الأمني
والاستراتيجي بشأن التعامل مع التطورات في الملف النووي الإيراني، وتهديداته للأمن القومي الإسرائيلي وفق مقاربة محددة، وتكرار الجانب الإسرائيلي حول ما تمثله من احتمالات توصل إيران لمرحلة العتبة النووية، وتأثيرات ذلك على الأمن القومي الإسرائيلي من جانب، وأمن الإقليم من جانب آخر، ورغم ما يجري من مفاوضات واتصالات بين واشنطن وتل أبيب، إلا أن الأمر لم يحسم بعد، ومحور لخلاف علني.
والسؤال الذي بات يشغل دوائر متعددة في إسرائيل هل تتسع زوايا الخلاف بين الجانبين، ولماذا تتسع الهوة في ظل ما يجري في واشنطن، والمطالبة بالضغط على إسرائيل بهدف تغيير مواقفها واتجاهاتها الراهنة، خاصة أن هناك تقييمات أميركية مهمة في بيوت
الخبرة، ومراكز البحوث تشير إلى أن إسرائيل نجحت في تحييد الموقف الأميركي تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأن الإدارة الأميركية سلّمت بالموقف الأميركي مما أحرج السياسة الأميركية، وأفقدها مصداقيتها في الشرق الأوسط.
وتتطرق التقييمات إلى أن هناك أطرافاً متربصة بما يجري، ويطرح نفسه بديلاً للسياسة الأميركية مثل الصين وروسيا، الأمر الذي قد يكون مكلفاً للولايات المتحدة، وسيدفع لتجرؤ دول أخرى على تكرار ما يجري في نمط العلاقات الأميركية الإسرائيلية الحالية والمتوقعة، ما يشير إلى أن الولايات المتحدة باتت تتجاوب مع الطرح الإسرائيلي ليس تجاه الجانب الفلسطيني، وإنما قد يكون مقدمة للتجاوب في ملفات أخرى محل تجاذب.
وهناك تحذيرات خرجت من بيوت الخبرة الأميركية تشير إلى خطر التجاوب مع المنظور الإسرائيلي الحاد في المواقف المثارة، ومنها احتمالات وصول إيران للعتبة النووية وتكثيف إسرائيل لحضورها كطرف في أمن الإقليم، والتركيز على السلام الأمني والسلام الاقتصادي بديلاً عن السلام السياسي مع الاستمرار في الحفاظ على تفوقها النوعي، وإعادة التركيز على ضرورة إتمام مشروعات السلام الإقليمي ما يهدد أمن المنطقة بأكملها، وليس إسرائيل وحدها.
وتتخوف إسرائيل فعلياً من ارتدادات سلبية لما يجري في الدوائر الأميركية المتعاطفة لعشرات الأسباب مع إسرائيل، الأمر الذي يدفع لضرورة التوصل لحل وسط، مع
الإيمان الكامل بأن استمرار مكونات الائتلاف في وضعها الراهن، ما يشير إلى حدود واضحة بين المصالح الأميركية والإسرائيلية – رغم كل ما يقال من توافق عامة والتزامات أميركية بحماية أمن إسرائيل – وبصورة مهمة تدفع لاستمرار التنسيق، وعدم الاستمرار في سيناريو التصعيد، أو الخلاف العلني الذي يمكن أن يضر بنمط ومسار العلاقات الثنائية في توقيت بالغ الأهمية بالنسبة للطرفين.
إسرائيل تعاني من حالة عدم استقرار سياسي عام استمراراً لمشهد التباين بخصوص ملف «الإصلاح القضائي»، واستمرار حالة الاحتجاجات الراهنة، والمرشحة للاستمرار، كما أن الولايات المتحدة تعاني من حالة توتر غير مسبوقة بسبب عدم التوافق بشأن
السياسات الائتمانية وأجواء استمرار محاكمة الرئيس السابق ترامب، وتصاعد مد الانقسام داخل الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري» معاً داخل الكونجرس وخارجه، الأمر الذي سيتطلب إعادة ترتيب الأولويات والمهام العاجلة لمنظومة العلاقات الأميركية الإسرائيلية.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.
المصدر .. الاتحاد