دستة كاملة من السنوات مضت منذ نشبت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، ولم يمر عام منها إلا وكانت الكتابة مرة عما جرى وكان، ومرات عما حدث بعدها وما قادت إليه من مصير. لم يختلف الحال بالنسبة لثورة يناير وثورات العالم الأخرى، ولا أعرف ثورة فى تاريخ العالم انتهى الخلاف حولها، من الثورة الأمريكية حتى الثورة الفرنسية والبلشفية والصينية وغيرها، وما زال الأمريكيون فى حيرة حول إعلان الاستقلال الذى أكد المساواة وحقوق الانسان الأساسية، ولكن الثورة ذاتها فى دستورها أقرت استمرار العبودية. الثورة الفرنسية غيرت فرنسا والعالم ومع ذلك فقد عادت أسرة البوربون مرة أخرى، ومن بعدها عاد الحكم لأسرة نابليون، ثم كانت الثورة على الثورات وقيام الجمهورية الأولى، والآن نتحدث عن تقاليد الجمهورية الخامسة! ولم تسلم ثورات مصر من نفس التقاليد، فى المراجعة والانقسام، الثورة التى أتت بالوالى محمد على إلى الحكم، وثورة عرابى، وثورة ١٩١٩،وثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ثورة يناير ٢٠١١ التى نعيش ذكراها لن تسلم من نفس التقاليد حيث التمزيق من قبل جماعة، بقدر ما تنظر لها جماعة أخرى فى حنين وشجن لذلك الورد الذى تفتح فى حدائق مصر.ولا تزال سكين الثورة حامية بحكم الزمن القريب، ولأن “الثورة” ما لبثت أن قادت إلى ثورات بعدها أكثرها تأثيرا ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣. الدستور المصرى ٢٠١٤ ـ كان حريصا فى مقدمته ليس فقط على ربط ثورتى يناير ويونيو، بل إنه دمج بينهما وجميع الثورات المصرية السابقة؛ وبعد تأكيد تلك الرابطة فإنه أكد طبيعتها الفريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية بما كان فيها من كثافة المشاركة الشعبية، وحماية جيش الشعب، ومباركة الأزهر والكنيسة، وطموحها إلى تحقيق الحرية والعدالة. هذه الثورة إشارة وبشارة، إشارة إلى ماض ما زال حاضرا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها.
كان هذا ما أتى به دستور البلاد حول علاقة عضوية بين ما جرى لدينا والإنسانية جمعاء، وهو ما لا يمكن إدراكه إلا من خلال قراءة ما حدث خلال السنوات التالية للثورة الثانية، أو الثورة التى كانت تصحيحا للثورة الأولى من نوعية جديدة من الثورات التطبيقية التى تقوم على الإصلاح. فى ٥ مايو ٢٠١٣ نشر الكاتب مقالا فى صحيفة المصرى اليوم الغراء تحت عنوان أربعة وجوه للثورة؟!. كان الوجه الأول لما جرى هو الشباب الذى قدم أولى الصور الرومانسية للثورة ومثالياتها وشعاراتها دون ترجمة إلى برامج عمل. الوجه الثانى للثورة رفع شعار المرجعية الإسلامية، ومشى وراءه جماعات الإخوان المسلمين والسلفيين والجهاديين وهؤلاء شكلوا جموع الثورة، خاصة ابتداء من الثامن والعشرين من يناير، وكانوا هم الذين أخذوا السبق فى شل الشرطة، ومن بعد ذلك المبادرة فى ترجمة الانتقال من النظام الذى بات قديما إلى النظام الجديد الذى كان فى طريقه إلى الميلاد وفقا لأصول ومستندات النظام السياسى الإيراني. الوجه الثالث للثورة جاء من المعارضين للنظام السابق، وكانت المطالب هنا متواضعة، فما كان مطلوبا هو النظام القديم مضافا إليه ديمقراطية نزيهة، أو هكذا كان الزعم. الوجه الرابع ظهر فى ذلك الخليط العجيب من الثورة والفوضى، وظهر فى الأشكال المختلفة من العنف ورفض تطبيق القانون، وإهانة الشرطة والقضاء، وتهديد كل رموز الدولة من المعارضة حتى رئيس الجمهورية وسلطته.
كان ذلك نوعا من الاستكشاف للمركبات المختلفة للثورة الأولى، وغاب عنه أن العملية الثورية لم تكن قد انتهت بعد، وكان يختمر داخلها ذلك التحالف الذى لم يقد فقط إلى الثورة الثانية، وإنما إلى وضع بذور نوع من الإصلاح العميق الذى يتعامل مع الإشكاليات التاريخية للحالة المصرية، والتى لا تتمثل التاريخ ولا تتعلم منه. ما حدث فى تاريخنا هو أننا لم ننجح أبدا فى الانطلاق إلى حجب التقدم بحيث نصل إلى مكانة البلدان المتقدمة؛ وأننا فى كل هذا عشنا فى وسط صراع بين البحر الأبيض المتوسط بصلاته الأوروبية مع الغرب وما جاء منه، والبحر الأحمر وامتداداته فى خليجى السويس والعقبة حيث انتقلت عبره الأديان وحضارات الشرق الأدنى. نتائج ذلك نعرفها فى تلك الحالة من الحيرة بين الدولة والثورة.وباختصار صارت الدولة شبه دولة والثورة شبه ثورة قيل عنها هوجة عرابى وهبة يناير. التجربة العالمية فى الخلاص من هكذا معضلة هى الإصلاح، والعمل الذى لا ينقطع، والاستغلال الكبير للتطورات التكنولوجية فى آخر مراحلها تقدما، والتجديد المستمر والخلاق للفكر دينيا كان أو مدنيا، إلى آخر ما هو معروف من تجارب ثورات. وما لا يقل أهمية عن ذلك كله المصارعة المستمرة مع اختبارات تأتى من كل صوب؛ وهو فى الحقيقة ما حدث فى ثورات العالم الكبرى بعد انقشاع الغبار عن الحالة الثورية، وبات على الناس مواجهة السؤال العظيم ما الذى يريدونه لبلادهم من تقدم وعظمة وغنى وتأثير إقليمى وعالمى؟ والأهم من ذلك أن يعرفوا ما هو ثمن كل ذلك من جهد وعرق ودموع ودماء إذا كان ذلك ضروريا؟ مصر الآن تعيش هذه الحالة بعد اختبارات الإرهاب والجائحة والحرب الأوكرانية فى أن تتعامل بحكمة وروية مع مركبات هذه الامتحانات التى هى الأكثر ألما من سوابقها.
نقلا عن الأهرام .