غاب “المفتي” فلعب “التاجر”، والمثل المصري يقول “غاب القط العب يا فار”، ومثل ينطبق أشد الانطباق على هذه القصة التي كان بطلاها مفتى مصر الشيخ المهدي العباسي، وشهبندر تجارها محمد المحروقي.
بدأت وقائع القصة حين مات أحد التجار الأتراك، ولم يكن له من وريث سوى ابنة واحدة، كان “المحروقي” يعلم مدى ثراء “التركي” ويريد أن يقاسم ابنته الثروة التي تقدر بـ6 آلاف كيس من الذهب، فاتفق مع أحد رجل بسيط يعمل بواباً على الذهاب إلى القاضي والادعاء بأنه ابن شقيق التاجر التركي المتوفى، ووضّب له مجموعة من الشهود الذين حلفوا زوراً على ذلك، فحكم القاضي بأن ترث الابنة 3 آلاف كيس، وابن الشقيق المزعوم مثلها.
أوجع الحكم قلب الابنة التي أحست أن ميراثها من أبيها يسرق عيني عينك، وهي لا تستطيع فعل شىء، خصوصاً وأن السرقة تتم بمعرفة شهبندر التجار الذي استولى على نصف الثروة وأعطى منها 300 دينار للبواب، ذهبت إلى دار المفتي الشيخ المهدي العباسي وسألت عنه فقيل لها أنه مسافر خارج البلاد.مكثت الفتاة غير بعيد، وعاد الشيخ “المهدي” وذهبت إليه.
استمع المفتي إلى شكايتها، وصارحها بأن القضية صعبة ومعقدة، لكن ذلك لا يمنع من المحاولة، ثم أحضر ملفها الكامل واطلع عليه بعناية، فأدرك من أول وهلة أن الحكم اعتمد على شهادة زور، واستنتج أن “المحروقي” هو من يقف وراء هذا التدبير الأثيم.
قرر “المهدي” الذهاب إلى الوالي محمد علي وإطلاعه على الأمر، وشرح له جانب التلفيق في القضية، وأن الحكم فيها اعتمد على شهود زور دفع لهم “المحروقي”، فأصدر الوالي أوامره بنقض الحكم وفتح القضية من جديد.
انعقد مجلس القضاء من جديد، في حضور الوالي والعلماء والمحروقي شهبندر التجار، وطلب القضاة من “المهدي” إبراز الأدلة والبراهين على ما يزعمه، فاتهم الجميع باستخلاص الحكم من شهادة زور، طلبوا منه الدليل على ذلك، وقبل أن يبرز لهم دليله صرخ فيه “المحروقي”: احترم العلماء كما يحترمونك يا شيخ مهدي.
فرد المفتي بحدة أكبر: يا محروقي هل أنت معنيّ بهذه القضية؟ فإذا كان لك دخل فيها فأعلن، وإلا فالزم الصمت. واذهب وتحدث في مجالس التجار، وإياك أن تفتح فاهك في مجالس العلماء.
احتقن وجه “المحروقي”، واحمرت أذناه، وترك المجلس بعد أن علم بأن أمره بات مفضوحاً، فقرر أن يهرول نحو تسوية المسألة.أبرز الشيخ “المهدي” دليله وهو أنه لابد في ادعاءات علاقات النسب والميراث من التحقق من أسماء والد المدعي ووالده وجده لأبيه وجده لأمه، وهو ما لم يحدث في قضية البواب، وهذا النقص في الشهادة يجعل الحكم باطلاً ملغياً.
صدّقت المحكمة على كلام الشيخ “المهدي”، وألغت الحكم، وعادت الثروة كاملة إلى ابنة التاجر التركي.وعدل الله يرغم كل ظالم.. وعدل الله هو الذي حكم في القضية.
نقلا عن جريدة الوطن .