وعندما زرت مسجد آيا صوفيا الذي انقلب تاريخياً من كنيسة إلى مسجد وظل تحفة معمارية لا نظير لها إلى جانب ما أتاحته لي انطباعاتي المختلفة من زياراتي للمساجد الإسلامية أتذكر منها قدس الأقداس في الحرمين الشريفين، خصوصاً أن ظروف عملي الأسبق قد أتاحت لي ذات يوم أن أرافق الرئيس الراحل مبارك في دخول الكعبة المشرفة عندما جرى فتحها للوفد المصري مجاملة من النظام السعودي لرئيس مصر بعد عودة العلاقات العربية مع الكنانة من جديد في أعقاب الملابسات التي ارتبطت باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وأدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر ومعظم الدول العربية لعقد كامل.
كما أنني زرت الكاتدرائيات الكبرى في أوروبا وأديت صلاة الجمعة في مسجد موسكو الكبير الذي أقامه الزعيم الروسي بوتين، ليكون تحفة معمارية رائعة تشييداً وتنظيماً، وأتاحت لي فرصة عملي في الهند أن أزور المعابد الهندوسية وأن أرى أيضاً المعابد البوذية، كما تطلعت ذات يوم في بغداد للكاظمية والأعظمية متجاورين في شموخ الإسلام الحنيف، وعندما كنت أستمع إلى صوت اللبناني الراحل وديع الصافي بحنجرته الجبلية ونغماته الرائعة كنت أعلم أنه بدأ بالإنشاد الكنسي ودرس الفن بنغمات التراتيل المسيحية ومزج بينها وبين ألحان العصر وموسيقاه فتكونت لي عقيدة من كل تلك المشاهد أن الدين لله وأن الوطن للجميع، وأمنت بأن العلاقة بين الدين والفن علاقة مفتوحة لأن كليهما يحلق في سماوات روحانية تسمو بصاحبها ليكتشف رسالة الفن – والموسيقى في مقدمة أدواته – إنما هي نغمات إنسانية ونداءات روحية يشترك فيها البشر من كل جنس ولون وعقيدة، ولقد شاءت الظروف أن أرى الدلاي لاما وأستمع إلى إيقاع الطبول التي تحيط بمجلسه وكيف أن الامتزاج الدائم والتآلف المستمر بين الدين والفن قد خلق دائماً بوتقة من الحب الخالص والإيمان العميق والصفاء النفسي الذي يرتفع فوق الخلافات والأحقاد، ولعلي أطرح أمام القارئ بعض الملاحظات في ذات السياق:
*أولاً: إن الفنون سمعية أو بصرية أو تشكيلية هي نغمات باقية في أعماق النفس، تشير دائماً إلى حالات الصفاء والسمو والرقي داخل الإنسان، إن الفن هو أرقى درجات الطهارة الذاتية التي ترتفع بصاحبها إلى مدارج الخلاص الروحي الذي يطهر الأفئدة ويوقظ الوجدان ويحيي موات القلوب، إن بعض القراء مثل القارئ الفذ الشيخ مصطفى إسماعيل، يحلق بي في أجواء تفصلني عن كل من حولي وترتفع بي إلى أجواء السماحة تجاه الجميع، وقد كان الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، يستلهم بعض جمله الموسيقية من قراءات الشيخ مصطفى إسماعيل، رحمهما الله، وهل ننسى جولات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي التف حوله البشر من مختلف الدول في حالة وجد عاطفي وسمو روحي، لأنهم يستمعون إلى صوت قادم من كنانة الله في الأرض يتلو القرآن فتخشع القلوب أمام كلمات الله جل علاه، إن الذي يستمع إلى صوت أم كلثوم في رباعيات الخيام يشعر بحالة التجلي التي بلغتها كوكب الشرق وهي تشدو بأبيات صوفية لشاعر فارسي ترجمها شاعر الشباب الراحل أحمد رامي.
*ثانياً: شخصياً أميز بين أصوات مقرئي القرآن الكريم لكل الأجيال السابقة وبكل ألوان القراءة المتداولة، وأفرق بين الشيوخ الطبلاوي، وأبو العينين شعيشع، وعبد العظيم زاهر، ومنصور الشامي الدمنهوري، ومحمود علي البنا، وغيرهم من رموز مملكة التلاوة، كما كان يسميها الكاتب الراحل محمود السعدني وهو الذي أطلق وصف قيثارة السماء على الصوت الملائكي الفريد للشيخ محمد رفعت.
*ثالثاً: لا يتوهم أحد بأن هناك تعارضاً بين الدين والفن؛ بل إن الفنون تكون أحياناً أحد مصادر تثبيت الإيمان وزرع اليقين، وليتذكر المسلمون أن نبينا الكريم قد اختبر الأصوات حتى وصل إلى بلال بن رباح، ليكون مؤذن الإسلام الأول، وفي ذلك تأكيد للعلاقة الطيبة بين الدين والفن، وعلى أولئك المتشددين ممن يخاصمون الفنون أن يدركوا بأن الحقيقة غير ذلك وأن الإيمان ينبع من القلب ويستقر في الأعماق.
تحية للفنون المعاصرة في خدمة الأديان والإنسان في كل زمان ومكان.
نقلا عن الخليج .