وإذا كنا نسلم من استقراء التاريخ الاجتماعي بأن التعليم هو سلم للصعود الطبقي في كثير من الحالات إلا أن الصعود حالياً لن يكون من طبقة إلى أخرى، لكن من طبقة إلى طبقات مختلفة، وإذا كنا نباهي دائماً بالتجانس السكاني والانصهار الاجتماعي في بلادنا، فإنني أخشى أن نصل إلى يوم نفتقد فيه ذلك، فأنا أرصد خريجين من أنواع التعليم المختلفة في مصر وأرى الفوارق الضخمة في نوعية العقلية وأساليب التفكير وأكتشف بسهولة المسافة الضخمة بينها، وأدرك مباشرة أننا على حافة الخطر فنحن نتحدث دائماً عن تطوير التعليم وتحديث أساليبه، لكننا لا نمس الجوهر الحقيقي للمشكلة والذي يتمثل فيما يمكن تسميته ديمقراطية التعليم، ولمن لا يعرف بأن هناك عنصرين نعتمد عليهما في تحقيق الاندماج الطبقي والتجانس المجتمعي وأعني بهما الجندية والتعليم، فالخدمة العسكرية إلزامية تصنع درجة عالية من المساواة بين الطبقات المختلفة والأصول العرقية المتعددة والديانات المتجاورة، الكل أمام العَلَم المصري سواء وخدمته فرض عين على كل شاب مصري قادر وقد كان الأمر ينسحب على التعليم أيضاً؛ إذ إنه يحتوى الجميع على قدم المساواة ولا يميز بين غني وفقير أو بين مصري وآخر بسبب النشأة الاجتماعية أو العقيدة الدينية، لكن التصنيف الجديد لنظم التعليم صنع تقسيماً مختلفاً يمثل خطراً دائماً على مستقبل البلاد والعباد.
فالتعددية التعليمية أصبحت نقمة على مصر والمصريين وليست نعمة مثلما هي في الدول الأخرى نتيجة ارتباطها حالياً بالتوزيع الطبقي للعائلات والأفراد إنها تشبه إلى حد كبير مشكلة النقل والمواصلات فهناك حلول ثلاثة لها، إما الانتقال بالسيارات الخاصة الفارهة مثلما هو النموذج الأمريكي وهو ما يعادل نظام التعليم الاستثماري الخاص بمصروفات عالية، والنمط الثاني هو انتقال الفقراء بالدراجات العادية على النمط الآسيوي في الصين والهند وتلك هي وسيلة الفقراء للانتقال وهي تعادل المدارس العامة المهملة في الأحياء الشعبية في النظام التعليمي المصري، أما النمط الأوروبي فالانتقال لديه يكون بوسائل النقل العام شريطة تحسين أوضاعها ورفع مستواها وهو ما نسعى إليه في بلاد مثل مصر فيها فقراء وفيها أغنياء، لكن الأغلب الأعم يأتي من الشرائح الأكثر عدداً والأشد فقراً، وهؤلاء يجب أن يحتويهم التعليم العام ذو المستوى الجيد الذي يغني عن غيره مثلما كان الأمر على عهد أبائنا وأجدادنا؛ حيث كانت المدرسة الواحدة تضم أولاد الأغنياء والوزراء والطبقة المتوسطة والفقراء دون تفرقة أو تمييز، فحفظ ذلك وحدة الشعب المصري وتماسكه. ويقارن بعضنا بين هذه المدارس والجامعات الأجنبية في مصر وبين خريجي المعاهد الدينية ومدارس الفقراء من أبناء الكنانة لكي يدرك الفارق الضخم في طريقة التفكير وأسلوب التعبير وطبيعة المعتقدات السائدة والأفكار المستقرة في أعماق كل فريق منها، لذلك فإنني أدعو إلى الإسراع في إنشاء مجلس أعلى للتعليم يترأسه رئيس الدولة شخصياً ويشارك فيه كل الوزراء المعنيين والخبراء المتخصصين وصولاً إلى تصور وطني واحد يضع خطوطاً عريضة لمسار التعليم ونوعيته في بلادنا المحروسة دائماً بإذن الله، إن ما ندركه اليوم قد لا نستطيع تداركه غداً واضعين في الاعتبار الأرقام الفلكية لمصروفات بعض المدارس والجامعات الأجنبية وما يترتب على ذلك من هوة اجتماعية سحيقة تفصل بين طوائف المجتمع وطبقاته.
إنني أخشى أن تذهب صيحتي هذه في الهواء وتضيع في وادي الصمت مثل غيرها، فالأمر جد خطير ويحتاج إلى دراسات متعمقة يشارك فيها سياسيون واقتصاديون وعلماء اجتماع وأخصائيون في التعليم والتربية مع ضرورة الاستماع إلى الرأي العام بمختلف مستوياته بدلاً من المضي في طريق التجربة والخطأ والمحاولة والصواب.
هذه كلمات صادقة لها دافع وحيد وهو الحرص على سلامة المجتمع وتماسك أطرافه وانصهار طبقاته في بوتقة التعليم مثلما تنصهر في بوتقة الجندية وخدمة العلم المصري الذي يرفرف على ربوع البلاد بلا تفرقة أو استثناء.
نقلا عن الخليج .