التوقيت مهم عند عرض القضايا وطرح المشكلات
علمتنى خبرات حياتى فى أروقة صنع القرارات المختلفة على مستوياتها المتعددة، أن طريقة العرض على صاحب القرار لها أهمية بالغة، فهى التى توحى أحيانا ــ ولو بشكل غير مباشر ــ بنوعية القرار الذى يجب اتخاذه، لذلك فإن الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الصدقية ودرجة عالية من الشفافية مع الصدق المطلق.
أتذكر الآن أننى لم أتستر طوال تاريخى الوظيفى على خطأ لصديق ولم أقدم دليلا كاذبا ضد خصم، وأتذكر أيضا أننى عندما توليت عملا بالغ الحساسية شديد التأثير، آليت على نفسى أن أكون متجردا حتى النخاع، صادقا إلى ما لا نهاية، شخصا يتحمل مسئولية الكلمة التى يقولها حتى وإن مست أقرب الناس إليه. فالوزير المصرى الراحل الذى كان سكرتيرا للرئيس عبدالناصر للمعلومات، أبلغ الرئيس بمحاولة بعض صغار الضباط فى عهده إعداد مشروع لتغيير النظام السياسى كنوع من الدعابة فقط، وكانوا لا يزالون حديثى العهد بالحياة العسكرية، وأدى ذلك إلى اعتقال شقيق سكرتير الرئيس فترة من الوقت، لأن أمانة العرض استوجبت البعد عن التعميم فى جانب والبعد عن الاستثناء فى جانب آخر.
أتذكر عندما توليت عملى إلى جانب الرئيس المصرى الراحل مبارك، أن رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحافية معروفة، وهو مثقف كبير ومؤرخ أيضا، قال للرئيس: لقد جئتنا فى مكتبك بشخص له ميول ناصرية لأنه تربى فى أروقة منظمة الشباب، وهو معروف بتوجهاته التى قد تختلف معنا، وأنا لدى مشكلات داخل المؤسسة مع رئيس تحرير صحيفة الجمهورية، وأخشى أن يكون سكرتير الرئيس الجديد منحازا لصديقه.
الغريب أن ذلك الشخص الذى كان يشكو هو نفسه الذى قال للرئيس الراحل بعدها بأشهر قليلة: لقد أحسنت يا سيادة الرئيس الاختيار فى سكرتيرك للمعلومات، إنه محايد بشكل مبالغ فيه وينقل إليك الحسنة والسيئة، وينحى جانبا مشاعره الشخصية أو انتماءاته السياسية، لأن صاحب القرار فى النهاية هو الذى يتحمل مسئوليته، ومن العبث أن يرفع إليه موضوع لا يستوفى دراسته أو قضية لا يبدو كل أطرافها متساوين فى إبداء آرائهم، لأن صاحب القرار على المستويات كافة هو المخول باتخاذ القرار النهائى وفق رؤيته. وغالبا ما يعتمد كبار المسئولين على مصادر عدة للخبر الواحد حتى تتكون لديهم قناعة محايدة وعادلة قبل اتخاذ قرار مهما كانت طبيعته، ولذلك فإننى أبدى حاليا الملاحظات الآتية:
أولا: إن طريقة العرض وأسلوبه قد يؤثران فى توجه صاحب القرار، خصوصا إذا كانت هى المرة الأولى التى يعرض فيها الموضوع عليه. وقديما قالوا «من سبق أكل النبق»، فمسئولية العرض الأول أكثر خطورة لأنها تكون لدى صاحب القرار الرأى البادئ على حد تعبير العلامة أحمد زكى ــ رحمه الله ــ وأضيف إلى ذلك أن المعلومة التى تصل أولا يكون لها وضع خاص فى الذاكرة البشرية وفى الذهن الإنسانى.
ثانيا: إن الذين يحيطون بصاحب القرار الخطر يكونون دائما على قدر المسئولية ولا ينالون ثقة صاحب القرار إلا بالتجربة الطويلة والخبرة المستمرة. ولا يخالجنى الشك ــ على سبيل المثال ــ فى أن رحلة وزير الحربية الأسبق شمس بدران، الذى توفى منذ أشهر قليلة فى بريطانيا ودفن فى مصر، إلى موسكو قبيل حرب 1967، قد جاءت بمعلومات غير دقيقة ومبالغ فيها ولو بحسن نية، عن الموقف السوفياتى حينذاك من دعم مصر فى حال وقوع اشتباك عسكرى مع إسرائيل. وهذه نقطة مهمة للغاية، فالانتقاء التحكمى من مسئولى المعلومات والتركيز على بعض عناصر الخبر من دون غيرها، يعتبر خطأ كبيرا سواء تم بوعى أو بغير وعى أو حتى بعفوية ومن دون قصد، إذ لا بد أن يلم صاحب القرار بأطراف الواقعة بخيرها وشرها، وأن تصل إليه الحقيقة ناصعة واضحة من دون تزييف أو تجميل أو إخفاء.
ثالثا: إن هناك تفرقة مهمة بين الخبر العاجل والخبر المهم، فقد يكون هناك خبر أقل أهمية من غيره ولكنه يحتاج إلى قرار لحظى بسبب التوقيت وتأثير عامل الوقت، كما قد يكون هناك خبر له أهمية كبيرة ولكنه يحتمل الإرجاء لأنه يتصل بقضية مستمرة ولا يؤثر عنصر الوقت فيها، وفى هذه الحالة يمكن تأجيله حتى يستوفى عناصر دراسته ويتم استيعاب جميع جوانبه. فالتفرقة بين المهم والعاجل تفرقة مفهومة وتحتاج إلى فهم سريع لمصفوفة المعلومات الواردة من الجهات المختلفة، لذلك فمن الأمانة أيضا ألا يقتصر الأمر على مصدر واحد، بل إن تعدد المصادر فى الموضوع ذاته يؤهل صاحب القرار لاتخاذ ما يراه فى حياد وموضوعية تقتضى أمانة العرض وجودهما.
رابعا: إن القرار يستوجب فى الغالب إجراءً مطلوبا تكون له تداعياته وتظهر آثاره، لذلك فإن العدالة تقتضى الحرص الشديد فى طرح القضايا الوطنية وإثارة المسائل العامة بل والموضوعات ذات الطابع الشخصى أيضا، خصوصا عندما يتصل الأمر بتقييم الأداء والمفاضلة بين مواطن وآخر على أرضية الكفاءة وحسن الخلق.
خامسا: يجب أن ينحى المسئول الذى يعرض انتماءاته الفكرية وعقيدته الروحية لكى يكون محايدا وقطعيا بكل المعايير، ولذا فإن تحكم فيه الهوى حول أمر ما فإن عليه الامتناع عن إبداء الرأى أو إعطاء النصيحة مهما كان الثمن، وقد قال تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
سادسا: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لذلك فإن عنصر القدوة مهم دائما، ليكون أمام الجميع ما يعطى المثل فى النزاهة وأمانة إبداء الرأى من دون تأثر بوجهة نظر أخرى، حتى لو كان معروفا أن متخذ القرار سيتبناها.
سابعا: إن التوقيت مهم عند عرض القضايا وطرح المشكلات، لذلك لا يجب أبدا أن يكون هناك مبرر لتسويف أو إرجاء عرض قضية معينة أو طرح موضوع بذاته، لأن عامل الوقت جوهرى فى تحديد مسار الحوار والمناقشة، وهو حاكم فى تحديد طبيعة القرار أيضا وفقا لدرجة الشفافية ونزاهة العرض.
ثامنا: إن تداعيات الشخصنة فى عرض الموضوعات والحوار حولها كفيلة بأن تضعنا أمام مواقف متناقضة، وتعكس حالة من العبث بالحقيقة والتلاعب بالآراء، بما يمثل سذاجة واضحة يجب أن يبرأ الإنسان السوى منها، وقديما قالوا: (لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها).
تاسعا: إن صاحب القرار يملك الفراسة دائما والإحساس الغريزى بصدق ما يتم عرضه عليه، بل إن صاحب القرار من جانبه يراجع المعلومات من مصادر أخرى حتى تتكون ثقته فى المعروض عليه مهما كان مصدره.
عاشرا: إن الدولة العصرية قادرة دائما على الجنوح نحو الصواب مهما كانت الأخطاء، إذ إن تكنولوجيا المعلومات ومصادر المعرفة تقدمان معا ما يمكن اعتباره صمام أمن لما يحدث فى كل الاتجاهات وعلى كل الجبهات.
هذه بعض خواطرى ــ فى شهر الصيام ــ أكتبها من دون مناسبة محددة بذاتها، ولكنها بديهيات رأيت أن نتذكرها دائما بخاصة أن أمتنا العربية تحاول أن تحلق إلى أعلى، على رغم المعوقات والعقبات ومحاولات تطويق دولها، وهى العصية على السقوط دائما وأبدا.