عشق اللغة العربية وخطها فعشقته ووهبته أسرارها، بأصابع ذهبية خط الصبي على جدران المدينة الباسلة: “من يتعاون مع الاستعمار له الموت”، فشهدت جدران البيوت والمدارس في محافظة بورسعيد على موهبة الفدائى الصغير، تمر السنون ويكبر الصبي ولم يترك مكان في مدينته الباسلة إلا وشهدت على مشواره الذى بدأه من سن الخامسة، مسعد خضير البورسعيدى، شيخ الخطاطين ونقيبهم في مصر.
حكايات مسعد الفدائي الصغير
نعود بالزمن لأربعينيات القرن الماضى في محافظة بورسعيد، هناك طفل صغير غلبه شغفه وحب وطنه. هو أصغر فدائي في البِلده، كان يلقي الحجارة مع الأطفال على عمال معسكرات الإنجليزى في بورسعيد ليمنعهم من الوصول لمقر عملهم، تم حبس الصغير أكثر من مرة في زنزانة عبارة عن غرفة صغير مظلمة موحشة ومفزعة تجمعت فيها براءة الأطفال بعد إلقاء القبض عليهم من المستعمر الإنجليزى، وأصر المستعمر على حبس والده كنوع من التهديد كى يجعل ابنه يكف عن ما يفعله ولكنهما كانا يزدادان حماسة.
.
.
في سن السادسة من عمره خط الطفل “مسعد” أول لافتة مناهضة للاستعمار مكتوب عليها “من يتعاون مع الإنجليز له الموت” و”يسقط الاستعمار”، حيث استعان به رجال المقاومة فى رسم الحروف على جدران المنشآت لتمتلئ شوارع بورسعيد بعبارات تلهب حماس أهالى البلدة الصغيرة، لم يخف البريء من مطاردة البوليس فحبه لبلده كان له الدافع كى يبحث عن أجمل الخطوط فى سنه الصغير ليرسمها بفطرته إلى كلمات. كما قال مسعد في حديثه لـ”اليوم السابع”: “لو ما كنتش فدائي ما كنتش هبقى خطاط” وكانت هذه البداية.
.
بدايات مسعد مع كتابة لافتات المحلات بالمدينة
داعبت الحروف عين الصبي بجمالها؛ فبدأ فى تدريب نفسه على كتابة الحروف؛ ولم تكن صدفة إنها تدابير القدر له؛ حين رأى كتاب عن الخط العربي للخطاط التركى محمد عزت ضمن مجموعة من الكتب على عربة “روبابيكيا” فاستعان به وعلم نفسه بنفسه، تذكر أيقونة الخط العربي في مصر والشرق الأوسط، كان أول له في المدرسة فقال: “يوم لا يُنسى حين جذبتنى الصبورة السوداء، فاستعنت بمقاعد الفصل حتى وصلت إليها ومعي الطباشير الذى لا تفارقنى، وكتب “الملك فاروق ملك مصر والسودان” بخط الثلث سعد بي مدير المدرسة وطلب منى أن أعلم زملائي، أما أول لافتة كتبتها فكنت فى الصف الثانى الابتدائى، حيث طلب منى زميلي أن أكتب لافتة محل والده وكانت “محمد عبد العال المصرى وأولاده” ومع إصرار زميلي استسلم والده وكتبتها ونالت اللافتة إعجاب الجموع داخل السوق الحميدى ببورسعيد.
.
.
رسومات جرافيك المقاومة الشعبية البورسعيدية على جدران طنطا
هاجر مسعد خضير إلى محافظة طنطا بسبب العدوان الثلاثى وتهجير أهالى محافظات القناة الثلاث، وكان فى سن الـ14 عامًا، أبهر “خضير” أهالى المحافظة بتوثيق معارك الفدائيين ببورسعيد على جدران المنشآت؛ فكانت “سيدة ممسكة بيد الهون، رجل ممسك بعصاته، وشباب بالسلاح” فتهافت عليه أصحاب المحلات لكتابة لافتات محلاتهم وحينها كان هناك شرط وحيد هو أن يكون اسم المحل مصحوبا بكلمة بورسعيد “بقالة بورسعيد، مكوجى بورسعيد” وإلا سيدفع صاحب المحل ثمن كتابة اللافتة وهو 10 قروش.
.
العودة من طنطا والهجرة للقاهرة
عاد المبدع إلى بلدته بعد هجرة دامت خمس سنوات، فتح محله القائم حتى الآن خلف قسم العرب ببورسعيد، وظل يعمل فيه خطاطًا حتى عام 1964، وبعد أداء خدمته العسكرية، قرر الهجرة إلى العاصمة “القاهرة” وفتح مقر له فى منطقة الجمالية واستقر فيه حتى الآن.
.
الخط العربي كائن حى
“الخط العربى كائن حى قلبي بيدق في الحرف فوهبه الحياة” هكذا وصفه “خضير البورسعيدي” فقال: ألعب بالنص وكأنى أقوم بعمل غنائى فأحول النص إلى صورة مرئية تفيد الناس كمثل” لسانك حصانك أن صنته صانك وإن هنته هانك” فقمت برسم المثل على صورة حصان يقف على الإهانة؛ فإذا رآه أحد لا يعرف القراءة سيفهم النص المكتوب، وفى ذلك أدين بالجميل لأساتذتى محمد عبد القادر، سيد إبراهيم ومحمد حسنى والد الفنانة سعاد حسنى، فى إتقانى الخط العربى فتعلمت منهم الكثير فهم أساتذتى وأصدقائى.
الصدفة جعلته مدير إدارة الخط العربي بالتليفزيون المصري
ويكمل خضير حديثه: جاء عملى فى التليفزيون المصرى بمحض الصدفة حين كان أحد تلاميذى يتقدم للعمل به كخطاط وأخذ معه بعض كتاباتى التى نالت إعجاب رئيس قسم الخط بماسبيرو وطلب منه أن يرانى للعمل معهم وبالفعل كانت بداياتى فى التليفزيون المصرى، كتبت العديد من تترات المسلسلات القديمة مثل المشرابية، القاهرة والناس، بابا عبده، أبو العلا البشرى وليالى الحلمية، والشهد والدموع، وأخرجت تتر مسرحية المشاغبين وغيرها من المسلسلات والمسرحيات التليفزيونية. ومن أهم البرامج التى كتبت تتراتها برنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود نالت إعجابه لدرجة أنه قال ” محمود عفت آتى بالباغة اللى عزف بها وأخذها منه خضير وكتب بها التتر حتى أصبح الخط العربى عازف موسيقى تتر البرنامج”.
.
متحفه يضم 15 ألف لوحة للخط العربي
بأصابعه الذهبية عزف بأنغام الحروف أجمل الكلمات، أقام خضير متحف للوحاته ضم 15 ألف لوحة جعله مزار للسائحين وعشاق وموردين الخط العربي، فالمعروضات ليست للبيع مهما كانت مغريات ثمنها. زار المتحف العديد من مشاهير العالم منهم مأمون عبد القيوم رئيس دولة المالديف، السيدة جيهان السادات، رؤساء دول عربية، فنانين، وسياسيين.
.
لخط العربي كائن حى إذا دخل الكمبيوتر خرجت منه الروح
قال شيخ الخطاطين: الخط العربى هو هوايتنا وإذا ضاع مننا ضاعت هوايتنا، وتابع: الكمبيوتر لغة العصر يصلح لتجميع كتاب، ولا يصلح لعمل إعلان يضمن خطوطا متنوعة، لأن الخط العربى كائن حى إذا دخل الكمبيوتر خرجت منه الروح “وسبحان الذى علم بالقلم وليس الكمبيوتر، لأن ضربات قلبى بتدق فى الحرف، لذلك الحرف المكتوب فيه روح يشعر به القارئ”.
.
المناصب التى تولاها خضير البورسعيدى
تولى شيخ الخطاطين العديد من المناصب منها رئيس شعبة الخطوط باتحاد الفنانين العرب، عضو عامل بنقابة الفنانين التشكيليين منذ نشأتها، عضو النقابة العامة للصحافة والطباعة والإعلام، مدير إدارة الخط العربي بالتليفزيون المصري، عضو مجلس إدارة الخط العربي بوزارة التربية والتعليم واشترك في إعداد وتطوير المناهج لمدارس الخطوط.
المصدر : اليوم السابع
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.