أحد المستشرقين الأمريكان، وهو أستاذ جامعي اسمه (شميدت)، اعتبر (ابن خلدون) هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع.. لكن هل كان هناك ما يدعى بعلم الاجتماع زمان؟
أكثر من هذا، أن علماء آخرين رأوا في كتابات ابن خلدون كلامًا في الاقتصاد السياسي وفلسفة التاريخ والتربية.. معنى هذا أن هذه العلوم العصرية جدًا، هي علوم قديمة اخترعها علماؤنا القدامى، ولم يفكروا في تسميتها ووصفها بهذه الأسماء الحديثة.
ومقدمة (ابن خلدون) ليست كتابًا.. بل جزء من سبعة أجزاء في كتاب اسمه (العبر…)، والكتاب موسوعة ضخمة هائلة، وكل هذا ليس غريبًا على عالم متفرد.
أما الغريب المدهش، فإنه وجد الوقت ليكتب كل هذا.. فهو كان سياسيًا محنكًا، مقربًا من السلاطين.. وعمل في القضاء أكثر من مرة، في مصر وتونس.. وعمل بالتدريس في الجامع الأزهر فترة.. وكل هذا يلتهم الوقت التهامًا.. وقد مات في الثامنة والسبعين، وهو على كرسي القضاء.
وهو نفسه يعترف أنه كان يكتب في أسفاره ورحلاته.. أي أن كل علمه الذي وصلـَنا منه، كان مجرد تسلية عنده.. وتمضية لأوقات الفراغ! وكل عظماء التاريخ لديهم هذه القدرة الرائعة على العمل المستمر.. أو أن هذه القوة هي التي جعلتهم عظماء.
وكانت نصيحة العقاد، وتلميذه أنيس منصور من بعده.. لكل الناس هي: القراءة المستمرة، والعمل طوال الوقت.. وكلاهما قليل النوم كثير العمل.
وكل العلماء يشتركون في هذه الصفة.. قلة النوم مع كثرة العمل.. وهم أشد الناس بخلًا بالوقت، إلا فيما يضيف إليهم علمًا وأجرًا.
وأشد ما يثير الدهشة في مقدمة (ابن خلدون).. النصائح التي يوجهها للمعلم والطالب.. وهي ذات النصائح التي تجدها في كتب علم النفس التربوي الآن!..
فإذا فتحت هذه المقدمة على الباب السادس، سوف تقرأ أشياء تفيدك وتدهشك.. مثلًا.. هناك مبدأ مهم في طرق التدريس، يراعيه المدرس عندما يبدأ في شرح أي درس جديد، المبدأ اسمه “التهيئة”.. وقد تكلم عنه (ابن خلدون).. وهاجم المدرس الذي يلتقط أصعب أجزاء الدرس ليبدأ به عملية الشرح.. بلا مقدمات، ولا تمهيد، ولا تدريج.. وأن مثل هذا المدرس جاهل، لا يعرف أصول مهنته.. ولا يعرف كيف يتسلل إلى عقل الطالب، ولا كيف يستدرجه إلى الدرس بهدوء.
ثم أشار إلى نوع آخر من المدرسين الجهلة.. وهو الذي يشتط في قسوته على التلاميذ.. وأن مثل هذا المدرس يقدم إلى المجتمع أنواعًا من المنحرفين سلوكيًا.. وأن التلميذ المعاقـَب إما يتعرض للإحباط والفشل.. أو يتعلم المكر والخديعة والكذب ليفلت من براثن المدرس وعصاه.
و(ابن خلدون) له رأي خطير في طريقة التعلم.. فيقول إن أفضل طريقة، هي أن تتعلم الفن – أي العلم، أو المادة – على ثلاثة تكرارات.. فتبدأ أولًا بالتعرف على كل أبواب الفن إجمالًا.. وأن هذه الخطوة ضرورية حتى تتربى لديك “ملـَكة “، أو فكرة عامة.. وتصبح مهيئًا لتحصيل أجزاء هذا الفن.. ثم يأتي دور التعرف على تفاصيل هذا الفن… ثم المرحلة النهائية التي تدرس فيها الدقائق المبهمة العويصة المستغلقة.
وليس كل طالب في حاجة لهذه التكرارات الثلاثة ليحفظ ويفهم.. فهناك طالب أفضل من غيره وأسرع.. وقادر على أن يحفظ منذ أول مرة يسمع فيها الدرس أو يقرؤه – ما زال هذا كلام (ابن خلدون)… وهذا المعنى موجود في علم النفس تحت عنوان “الفروق الفردية”.
أغرب من هذا.. أن (ابن خلدون) يتكلم عن علماء ومدرسين لجأوا إلى صنع ملازم ومختصرات.. أو ملخصات دراسية! وأن هذه الملخصات ضارة.. والسبب أن الطالب يستغنى بها عن الكتاب الأصلي.. فلا يفهم؛ لأنه ينسى أن الإختصارات هي مجرد إيحاءات وإيماءات للتذكرة وإنعاش الأفكار النائمة.
وإذا قرأت نصائح (ابن خلدون) ونفذتها.. فأنت تنفذ نصائح سياسي مخضرم، ومدرس قديم، وحكيم أوصلته حكمته إلى منصب القضاء. وإذا أردت أن تكون عظيمًا مثل (ابن خلدون)، فثق أن هذا لن يحدث إذا كانت حياتك مثل المستنقع الآسن، أو البـِركة الراكدة، التي لا يُحرك ساكنها إلا حجر يُلقى أو قشة تقع؛ بل عليك أن تقلد (ابن خلدون) وأمثاله.. فتتحول إلى بركان فائر متوهج، وفيضان دائب الحركة والجريان.
نقلا عن الأهرام .