يتعرض هذا البلد لاختناقات دستورية وأزمات نيابية بسبب السياسة الطائفية وتظل المناصب الكبرى شاغرة أحيانا خصوصا الرئاسة.
هو ذلك البلد العربى الذى يطل على البحر المتوسط والذى تحددت شخصيته من خلال تعاقب الحضارات وتراكم الثقافات حتى أصبح مزارا لكل من يأتيه من أركان الدنيا الأربعة ووريثا شرعيا للشخصية التاريخية للمشرق العربى. هو ذلك البلد الجميل الذى أطلق عليه الجميع لقب «سويسرا الشرق»، وهو ذلك الكيان الذى تمتزج فيه روح البحر المتوسط بتجربة التعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، فى ظل أعلام العروبة ورايات التاريخ التى امتدت عبر العصور.
إنه لبنان بشير الشهابى ولبنان خليل مطران وميخائيل نعيمة وفيروز التى تغنت بجارة الوادى التى صدح بها صوتها الفريد بأبيات أمير الشعراء أحمد شوقى عندما كان لبنان منتجع صفوة المفكرين والأدباء والفنانين من أقطار العرب شرقها وغربها. ولبنان فؤاد شهاب ورشيد كرامى وصائب سلام وسامى الصلح. لبنان مزار كنيسة حريصا ومسجد رفيق الحريرى، لبنان الموارنة والسنة والشيعة والدروز، لبنان الجبل والسهل، لبنان الأضواء قبل أن يعانى نقص الكهرباء! لبنان الشامخ حتى لو انخفضت أسعار عملته فى الأسواق يظل دائما مركز الإشراق ونقطة الانطلاق.
عرف تجربة التعايش المشترك قبل غيره وأصبح نموذجا للتألق والازدهار واتسم شعبه بالمهارة والقدرة الرائعة على استقبال السياح من ضيوف لبنان الوافدين من أنحاء الدنيا يجرعون كئوس العرق على جباله الخضراء وسط أجراس الكنائس وأصوات المآذن. وبقدر ما أعطى الله لبنان من نعم، بقدر ما أحاط به من مشكلات وتحديات وأطماع حتى تعرض لأزمات متتالية ومشكلات مستعصية وأطماع شرسة وأحقاد دفينة وغيرة من لا يريدون له الازدهار والإبهار والمجد.
أسعى من هذه المقدمة أن أعبر عن الشعور العميق بالحزن لما آلت إليه الأوضاع فى ذلك البلد الذى تغنى به الشعراء وأسرف فى وصفه الأدباء وظل دائما مظهرا حضاريا للشام الكبير، رابضا على الحدود مع أشقائه العرب فى جانب ودولة إسرائيل فى تماس مع جنوبه المناضل من أجل التحرير واستعادة الحقوق واسترداد الأوطان. وأسجل هنا بعض الملاحظات المتعلقة بلبنان العربى على النحو التالى:
أولا: ابتلى الله لبنان الرائع بداء الطائفية، إذ حدد ميثاق عام 1943 توزيع المناصب العليا فى البلاد بحيث تكون رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة الحكومة للسنة ورئاسة البرلمان للشيعة، وظل الوضع حتى الآن متبعا هذا التقسيم الطائفى الذى لم تخرج عنه الدولة اللبنانية حتى بعد أن تطورت الدنيا ونبذت الشعوب الطائفية وخرجت إلى الدولة الديمقراطية التى تسود أنحاء العالم بمنطق المواطنة.
لكن التوازن اللبنانى يأبى إلا أن يظل على وضعه حتى تتحقق له حال الاستقرار المنشود الذى غاب عقودا طويلة عن أرض شجرة الأرز التى هى العنوان والرمز. لذلك يتعرض هذا البلد لاختناقات دستورية وأزمات نيابية بسبب السياسة الطائفية، وتظل المناصب الكبرى شاغرة أحيانا، خصوصا منصب الرئاسة كما هى الحال الآن، ودخل على الخط بعد جديد فى العقود الأخيرة تمثل فى تنامى الدور السياسى لـ«حزب الله» فى الجنوب مدعوما من إيران ومستقرا للحركات الشيعية فى لبنان الذى يعانى على مر السنين بعد أن شهد حربا أهلية ضروسا امتدت لأكثر من 15 عاما وحصدت الأخضر واليابس، ولكن ذلك الشعب النبيل الذى يملك إرادة الحياة، استطاع أن يجدد شباب بلاده وأن يعيدها إلى ما يجب أن تكون عليه.
على الرغم من ذلك ظل داء الطائفية ينخر فى جسده الواحد مع أطماع إسرائيلية أحيانا وسطوة سورية أخرى، إذ لا ننسى أن لبنان جزء من الشام الكبير الذى يجمع تلك البوتقة من الدول الزاهرة على الأرض العربية التاريخية منذ العصر الأموى حتى الآن. وما أكثر ما بحث لبنان عن شخصية قديرة لمنصب رفيع، ولكن معيار الطائفية يعلو غالبا على معيار الخبرة ومعيار الكفاءة، احتراما للتقسيم الطائفى الذى يطيح القدرات من أجل إرضاء الزعامات التى تنطلق من أصول طائفية بالدرجة الأولى.
ثانيا: إن الميراث العائلى للمواقع السياسية أمر وارد عرفته دول مثل الهند وباكستان وسريلانكا فى آسيا، بل دول أوروبية فى ظل نظام جمهورى مثل اليونان ودولة بعيدة مثل كندا، فضلا عن دول أفريقية عدة. ونحن لا نزعم هنا أن ميراث المناصب فى العائلات الحاكمة أمر جديد، ولكنه فى الحالة اللبنانية ميراث من نوع خاص يتغلل فى الجذور ويمضى فى الأعماق. فبيت الجميّل يقدم زعامات، واسم كميل شمعون يطرح ورثة، فضلا عن بيوت مثل فرنجية ولحود وسلام وكرامى وغيرهم من عشرات البيوت الحاكمة والمؤثرة فى تاريخ الحياة السياسية اللبنانية. فوليد جنبلاط، زعيم الدروز، هو ابن كمال جنبلاط زعيمها السابق فى ظل تنافس حميد بين بيتى جنبلاط وأرسلان على زعامة تلك الطائفة.
وما أكثر النماذج للوراثة التلقائية للأبناء فى مواقع آبائهم بل أجدادهم، فى ظل قبول عام لتلك التركيبة الخاصة التى ينفرد بها لبنان العربى بمسيحييه ومسلميه. ولا شك فى أن تلك الوراثة على رغم القبول العام بها، إلا أنها تخلق فى النهاية طبقة متميزة فى الحكم تصنع هوة كبيرة بين الحاكم والمحكومين، وذلك فى ظنى جزء كبير من مأساة ذلك البلد المفترى عليه الذى يدفع فاتورة غالية من استقراره ورفاهيته من حين لآخر.
ثالثا: إن ذلك يقودنا إلى الطبقة السياسية المتميزة المرتبطة بالثروة والشهرة والمعروفة باحتلال المناصب وحيازة المواقع فى كل العهود، حتى أصبح لهؤلاء الحكام حق تاريخى وصك معترف به ترثه العائلات تلقائيا بمنطق عشائرى وجهوى لا يجادل فيه أحد، وتكون النتيجة هى خلطة لبنانية فى الحكم تبدو نسيجا وحدها ولا نظير لها ولا تطابق معها، إنه لبنان الصعود والهبوط، لبنان العربى بمسحة أوروبية والغربى بنكهة شرقية.
رابعا: لا بد من أن نعترف هنا بأن صراعات لبنان ومشكلاته هى محصلة لصراعات ومشكلات المنطقة العربية كلها، بحيث يصبح على لبنان أن يدفع الفاتورة كاملة لأن تصفية الحسابات تدور على أرضه والمواجهات تنتهى على حسابه، ولم تكن الحرب الأهلية التى امتدت فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى والنصف الأول من ثمانينيات ذلك القرن، إلا نموذجا واضحا لما نقول. فقد تصارع الفلسطينيون والسوريون والإسرائيليون فوق أرض الشعب اللبنانى الذى وجد نفسه ضحية حقيقية وأصبح من المتعين عليه أن يكون طرفا فى صراع لم يكن سببا فيه ولا صانعا له.
خامسا: ها هو لبنان يدفع فاتورة فادحة فى ظل انفجار مروع فى المرفأ عام 2020 مع انهيار لمصداقية البنوك واضطراب فى مصرف لبنان، ويأتى ذلك كله فى ظل ظروف اقتصادية صعبة للغاية وانهيار واضح لقيمة العملة وإحساس عميق بحجم الأزمة التى وصل بها الحد إلى عجز برلمانه عن انتخاب رئيس للجمهورية على رغم شغور المنصب منذ أشهر عدة. ولا عجب فهو لبنان المشكلات والأزمات، لبنان التحالفات والصراعات، لبنان الصحافة الحرة والأفكار الجديدة والفنون المتميزة!
إننى أكتب هذه السطور لا لأنعى شخصية لبنان الرائعة، فهى لا تموت مع الزمن ولا أبكى على اللبن المسكوب فى صحة شعب يملك إرادة الحياة على نحو فريد وتتجدد على أرضه كل مظاهر الحضارة والثقافة الشرقية والغربية فى سبيكة خاصة يفاخر بها اللبنانيون ويعتز بها أشقاؤهم فى المشرق العربى وحوض البحر المتوسط، إننى أكتب هذه السطور تحية للأشقاء وأملا فى الخروج من الأزمة ورغبة فى استعادة الحيوية والشراكة القومية والاندفاع نحو مستقبل أفضل لبلد عربى كان دائما ملاذ الحرية ونموذج التحضر ومصدر التميز وواحة الأمان!
المصدر .. الشروق