ورغم ما أثاره هذا الحادث الشائن من ردود فعل غاضبة وإدانات عديدة من دول عربية وإسلامية ومنظمات دولية، فقد أقدم قيادي في حركة “بيجيدا” المعادية للإسلام على تمزيق صفحات من المصحف، على مقربة من مقر مجلس النواب الهولندي، في لاهاي، قبل أن يدوسها بقدميه، لكن الشرطة المحلية منعته من إحراقه.
لقد أثار الحادثان الشائنان غضباً واحتجاجاً واسعين في العالمين العربي والإسلامي، وتسابقت دول عربية وإسلامية على إدانتهما بأشد العبارات، كما قامت المؤسسات الدينية بدور مهم في هذا الصدد، فضلاً عن انتشار دعوات لمقاطعة المنتجات السويدية والهولندية، في ظل اندلاع عدد من الاحتجاجات في بعض الدول.
يتوسل مناصرو هذه الأعمال الشاذة والمؤذية بقيمة حرية الرأي والتعبير، ويخلطون بين معاداتهم لبعض الممارسات الحادة المنسوبة للدين الإسلامي من قبل جماعات راديكالية وبين معادة الدين الإسلامي نفسه، وهو أمر بات معتاداً للأسف منذ أكثر من عقدين، وخصوصاً عقب هجمات تنظيم “القاعدة” في منهاتن.
وأخطر ما تشير إليه تلك الحوادث لا يتعلق بوجود طبقات من المواطنين الغربيين الذين ينطوون على هذا الموقف العدائي تجاه الدين الإسلامي، لكنه يتصل أيضاً للأسف بوجود ظهير سياسي يدعم تلك الأفكار، وهو ظهير استطاع أن ينفذ إلى برلمانات بعض الدول الأوروبية أو يتولى مناصب في حكوماتها.
والشاهد أن هذه الحوادث، التي تقع من حين إلى آخر، تجد ذرائع سياسية وثقافية واجتماعية عديدة لتغذيتها؛ بعضها يتعلق بالأنشطة الإرهابية المستندة إلى تأويلات دينية إسلامية، أو بموجات الهجرة الشرقية التي تثير حفيظة اليمينيين والمحافظين في الغرب، أو بالأدوار الملتبسة التي تقوم بها بعض المنابر الإعلامية لإشاعة الكراهية والتعصب والعنصرية، وخصوصاً في مواقع “التواصل الاجتماعي”.
ومن جانب آخر، فإن بعض التيارات السياسية الشعبوية في الغرب تستثمر هذه الحالة، ويبني بعض السياسيين والجماعات اليمينية والقومية خطاباتهم على أسس معادية للإسلام لتحقيق التمركز السياسي والفوز في الانتخابات، وهو أمر يوسع دائرة التعصب والكراهية، ويفاقم حالة العداء، ويفرز المزيد من هذه الممارسات الشاذة والحادة.
ويخطئ بعض الغربيين الذين ينظرون إلى تلك الحوادث من زاوية حرية الرأي والتعبير؛ إذ تحتاج مقاربتها إلى تقص دقيق للخيط الرفيع الذي يفصل بين حرية الرأي والتعبير من جهة وازدراء الأديان من جهة أخرى.
وبالتالي، فإن الحديث عن ضرورة إطلاق حرية الرأي والتعبير إلى حدها الأقصى، من دون أي قيود أو حدود هو حديث يحتاج مراجعة، طالما أنه قد يتعارض مع حق أصيل آخر يتمثل في احترام معتقدات البشر، وعدم استخدام حرية الرأي والتعبير لإشعال الفتن وإثارة الكراهية.
هناك تنظيم لمسألة مقاربة العقائد في المجتمعات الغربية، وهو تنظيم لا يعاقب على الرأي بعقوبات حادة في أغلب الأحيان، ولا يترك الحبل على الغارب بشكل يمكن أن يشكل انتهاكاً لحق المعتقدين أنفسهم في حماية مقدساتهم واحترامها، أو يفتح الباب للفتن والتمييز والكراهية بين أبناء المجتمعات.
في الولايات المتحدة مثلاً، يعد “التعديل الأول” الذي طرأ على الدستور الأمريكي عنصراً حاكماً يؤطر الممارسات المتصلة بحرية الرأي والتعبير، حيث يحظر هذا التعديل سن أي قانون يحد من حرية الكلام، لكنه ينطوي أيضاً على فكرة عدم سن قوانين من شأنها الحض على ممارسة شعائر دين معين، أو الامتناع عن ممارسة شعائر دين معين.
سيقودنا هذا إلى إيجاد تفسير لبعض “التناقضات” بين مفهومي الانفتاح وحرية الرأي من جانب، والإجراءات التقييدية التي تتخذ بحق بعض “المعبرين عن آرائهم” بشكل يمس احترام المعتقدات من جانب آخر، في المجتمعات الغربية.يبدو أن لكل مجتمع من المجتمعات خطوطاً حمراء يريد أن يحافظ عليها من دون خرق أو تجاوز، وتلك الخطوط تتفاوت من مجتمع إلى آخر، كما تتفاوت الإجراءات الرادعة المستخدمة في كل دولة من دول العالم بحسب عوامل متعددة.
لا يجب تشجيع قمع الآراء أو مصادرة حرية التعبير، لكن مقاربة “القيم الحيوية” لأي أمة يجب أن تكون من خلال أسلوب مدروس، وأن تأتي في شكل لائق ومتزن، وأن تنأى تماماً عن أي تحقير أو استخفاف، وأن تستهدف التنوير والمصلحة العامة، وليس تكريس الصراعات وخلق الفتن.
لا يجب التسامح مع الأفعال الشاذة التي تؤجج الكراهية وتشعل التعصب وتفاقم العنصرية وتزدري عقائد الآخرين ومقدساتهم، ولا يجب أيضاً مواجهة تلك الأفعال الشائنة بسلوك حاد أو عنيف.
إن الإدانة السياسية، واستدعاء السفراء، والمطالبة بإيضاحات، والضغط للحصول على اعتذارات، كلها من أعمال السياسة الجيدة لمواجهة هذه الأفعال، كما أن الدعوة إلى المقاطعة قد تكون عملاً ناجعاً.
لكن بموازاة ذلك، علينا أيضاً أن نُظهر احترامنا لعقائد الآخرين، وأن نجعل معركتنا في هذا الصدد عادلة، بحيث ندافع عن حماية معتقدات الناس ونحترم مقدساتهم ورموزهم الدينية، لنطالب بعدالة واتساق بأن نحصل على حقنا في احترام مقدساتنا ورموزنا الدينية.
المصدر .. الوطن .