مع التصاعد الكبير في أعداد مستخدمي “الإنترنت” وشبكات “التواصل الاجتماعي” عبر العالم، تزايد تأثير تلك الشبكات في الأوضاع المجتمعية لمختلف البلدان؛ وهو الأمر الذي فرض تحديات كبيرة على نطاق السيادة الوطنية على المجال الإعلامي من جانب، وخلق فرصاً يمكن الاستفادة منها من جانب آخر.
تعطي مواقع “التواصل الاجتماعي” ميزات كبيرة لهؤلاء الذين يريدون استخدامها في حرف اتجاهات الجمهور عبر عمليات التزييف المتاحة بسهولة بالغة، كما أن ما يتم نشره عبر تلك الوسائل لا يمكن التحقق من صحته بسهولة.
ستظل وسائط “التواصل الاجتماعي” تكسب أرضاً جديدة في ميادين الإخبار، طالما كان “الإعلام التقليدي” يفتقد التنوع والتعدد ويعاني التراجع المهني، وطالما كان عاجزاً عن تغيير إيقاعه وتطوير أدواته، للحاق بجمهور بات مزاجه في التعرض الإخباري أكثر ميلاً للمقاربة الموجزة الموحية الحادة.
لكن التحدي الكبير في هذا الصدد يتعلق بكيفية خلق التكامل والتعاون بين الإعلامين “التقليدي” و”الجديد”، بحيث يصبح أولهما أكثر تحرراً وسرعة وشفافية، ويصبح الآخر أكثر دقة ومسئولية وخضوعاً للضبط الذاتي.
إن تدريب الصحفيين المحترفين على استخدام وسائل “التواصل الاجتماعي” في عملهم خلال فترات الأزمات خصوصاً مسألة غاية في الأهمية، ويجب أن يلتزم الصحفيون الذين يعتمدون على تلك الوسائل خلال تغطياتهم بالقواعد المهنية والأخلاقية المناسبة في هذا الصدد؛ وفي مقدمتها ضرورة تحري الدقة، والنسب إلى مصادر واضحة كلما أمكن، ووضع الأحداث في سياقها، إضافة إلى التثبت من الصور والفيديوهات وأوقات تسجيلها وتصويرها.
وفي كل الأحوال، فإن الاعتماد أحياناً على مواقع “التواصل الاجتماعي” في معرفة ما يجري في أوقات الأزمات قد يكون ضرورياً في ظل غياب الإفادات التي تأتي عبر صحفيين محترفين، لكن هذا الاعتماد يجب أن يكون حلاً أخيراً من جهة، كما يجب أن يتم بحذر شديد وبعد تحر وتدقيق من جهة أخرى.لقد منحتنا وسائل “التواصل الاجتماعي” فرصاً عديدة حين قصرت المسافات، وسهلت الاتصالات، ونقلت الأفكار والصور، وعززت مفاهيم الحداثة، لكن في مقابل هذه الميزات والفرص الكبيرة ظهرت المخاطر الفادحة؛ ومنها تأجيج النزاعات، والتحريض على العنف، وإشاعة خطاب الكراهية، والخضوع لـ”المليشيات الإلكترونية” التي يجري استخدامها كأداة للتعبئة والحشد والاغتيال المعنوي أحياناً.
ستشهد السنوات القليلة المقبلة اختباراً صعباُ لتلك الوسائل ومستخدميها، فإما أن تستطيع أن تطور وسائل تنظيمية تحد من أخطائها وتعزز أداءها الإخباري والاجتماعي، وإما أن تستسلم للممارسات الحادة والمنحرفة، فتصبح أدوات للتخريب، وتقويض أركان المجتمعات وهز سلمها الأهلي والعبث بمقدرات الأفراد والدول.
على أي دولة تواجه أزمات حادة أن تدرك أن الدور الذي تلعبه “السوشيال ميديا” أخطر من أن يُترك بلا إدارة مُحكمة واحترافية؛ ففي ظل تلك الأجواء تسبق وسائل “التواصل الاجتماعي” الإعلام التقليدي بمراحل، وتهيمن على مجال الأخبار العاجلة والمهمة، وكثيراً ما تصوغ الانطباع الأول، الذي يصبح، في أحيان عديدة، مرادفاً للحقيقة.
تحتاج الإدارة الإعلامية للأزمات الحادة إلى إدارة حكيمة للبيئة الإعلامية، كما تحتاج إلى إدراك أن كل مساحة يتخلى عنها “الإعلام التقليدي” تكسبها “السوشيال ميديا”، وتلك الأخيرة لا تخضع لأي ضبط سوى ما يرتضيه المستخدم لذاته، والحل يكمن في تعزيز أداء “الإعلام التقليدي”، ودعمه، وتزويده بالمعلومات المطلوبة، مادامت غير محظورة، في توقيتات مناسبة، ليصبح مصدر اعتماد الجمهور الأساسي.
وفي هذا الصدد، ستظل قدرة الحكومات على المواءمة بين مقتضيات حرية الرأي والتعبير وبين اعتبارات الأمن القومي وصيانة الحقوق الشخصية محل تقدير شديد، لكن تلك المواءمة تحتاج إلى مبادرات قوية تشمل عنصري التنظيم القانوني وآليات التطوير والتعزيز.
ورغم أن قطاعاً عريضاً من المستخدمين والحقوقيين ينظر إلى مواقع “التواصل الاجتماعي” باعتبارها “فضاء حراً” لا يجوز فرض أي تنظيم أو سن قوانين بصدده، فإن الممارسات الحادة والمنفلتة التي تم رصدها عبر تلك الوسائط أضعفت تلك الحجة إلى حد كبير، وهو أمر حدث في البلدان المتقدمة كما حدث في غيرها من دول العالم.
ورغم أن “حرية الإنترنت” لا تزال أحد مؤشرات قياس درجة الحريات العامة في أي دولة، فإنه لم يعد بالإمكان إنكار ضرورة تطوير نوع من التنظيم لتلك الشبكات، خصوصاً بعدما زادت الممارسات المسيئة عبرها إلى درجة كبيرة؛ سواء تجسد ذلك في دعم الإرهاب، أو التمييز، أو إثارة الكراهية، أو التحريض على العنف، أو إطلاق الحسابات الوهمية، والتدخل في مسار الانتخابات والعمليات السياسية بشكل مضر، وحرف الرأي العام، وإشاعة الأخبار المزيفة، وانتهاك الحقوق الشخصية، والإضرار بالنشء وبالصحة النفسية للمستخدمين.
وفي مصر، ظهرت بوضوح مشكلة الفبركة والاصطناع والطعن في السمعة الشخصية، والأخطر من ذلك أنشطة التحريض على العنف وإثارة الكراهية، وهي أنشطة قامت على أغلبها لجان إلكترونية أو تنظيمات وأشخاص ذوي مصالح تتعلق بإشاعة الفتن والأخبار الزائفة بغرض زعزعة استقرار الدولة والضغط على السلطات.
ولذلك، فثمة حاجة متزايدة إلى إيجاد طريقة نستطيع من خلالها أن نطور أداء تلك الشبكات وفق قواعد وأسس للتفاعل عبرها، من دون أن نجور على حرية الرأي، أو نُضيّق الهوامش المتاحة عبرها.
نقلا عن الوطن .