من بين أفضل المزايا التي حصلنا عليها بفضل وجود “السوشيال ميديا” في حياتنا، أن تلك الوسائط مكنت من لا صوت له من أن يُسمع العالم صوته، وأنها وفرت فرصة لأصحاب المظالم لكي يصلوا إلى المجال العام ويبثوا شكاواهم، وفي عديد الحالات تحقق الإنصاف ورُدت الحقوق بفضل ما تمتلكه من نفاذية وتأثير كبيرين.
لقد مُنحت جماعات الضغط فرصاً كبيرة وتمتعت بزخم لا حد له بفضل أنشطتها على “السوشيال ميديا”، التي وفرت جهوداً وموارد ووقتاً لأصحاب المواقف، ومكنتهم من إيصال رسائلهم بأيسر السبل وعبر أوسع النطاقات.
لكن التلاعب ظهر وتمكّن في عالم “السوشيال ميديا”، واختلط الزيف بالحقيقة، واستطاع البعض تحقيق مآرب مشبوهة بفضل استغلال الهشاشة التي تنطوي عليها تلك الوسائط، وقابليتها الواسعة للتزييف والتضليل.
لا يمكن إنكار أن وسائل التواصل الاجتماعي منحتنا فرصاً عديدة حين قصرت المسافات، وسهلت الاتصالات، ونقلت الأفكار والصور، وعززت مفاهيم الحداثة، لكن في مقابل هذه الميزات والفرص الكبيرة ظهرت المخاطر الفادحة؛ ومنها خطر الخضوع لتأثير “الميليشيات الإلكترونية”، التي تستخدمها بعض الأطراف كأداة للتعبئة والحشد والاغتيال المعنوي وإشاعة الأكاذيب في كثير من الأحيان.
يصعب فصل المحتوى الإخباري المقدم عبر مواقع “التواصل الاجتماعي” عن المحتوى الدعائي بسهولة؛ إذ تنشط مجموعات، يسميها الصينيون “عصابات الخمسين سنتاً”، ونطلق عليها في العالم العربي لقب “الميليشيات الإلكترونية”، في عملية تسميم المحتوى الإخباري على الشبكة.
تقوم تلك المجموعات بعمل “ميليشياوي” بامتياز، إذ تخضع لتخطيط مركزي، يستهدف إحداث أثر معين، حيث تطور حسابات بأسماء وهمية، وبالتالي فإنها تنجح في إصابة أهدافها من دون كشف هوياتها في كثير من الأحيان.
تقوم “عصابات الخمسين سنتاً” بشن حملات السب والقذف والكراهية على أطراف معينة، امتثالاً لأوامر مشغليها، كما تقوم أحياناً بحملات دعاية وترويج ومدح للحلفاء والأنصار.
ويمكن لتلك “الميليشيات” أيضاً أن تختلق أخباراً من العدم، وتذيعها على حساباتها باعتبارها حقائق، قبل أن تُجيّش في اتجاه معين، استناداً إلى تلك الإفادات المصطنعة.
يقتطع أعضاء تلك “الميليشيات” صوراً وكلمات ولقطات “فيديو” من سياقها، ويتم وضعها تحت عناوين مضللة، وفي سياق عرض معين، لكي توقع بطرف، أو تدين طرفاً، أو تختلق فتنة بين أتباع دينين أو مذهبين، أو تمجد زعيماً، أو تحقر رئيساً.
وللأسف الشديد فإن “عصابات الخمسين سنتاً”، أو “الميليشيات الإلكترونية”، أو “اللجان الإلكترونية”، لم تعد مسألة قاصرة على الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية وقوى المعارضة، ولكن الحكومات أيضاً تستخدمها.لقد تحول الفضاء الإلكتروني، خصوصاً في صفحات “السوشيال ميديا”، إلى ميدان تضاغط وصراع، وهو ميدان لا تتورع عن النزال فيه حكومة أو معارضة، أو منظمة مدنية أو جماعة إرهابية، أو حتى رجال أعمال وأصحاب مصالح، وبسبب تفشي أثر تلك اللجان، فإن الدور الإخباري لوسائل “التواصل الاجتماعي” يظل محل شكوك عميقة.
وفي الآونة الأخيرة، ظهرت برامج إلكترونية تمكن بعض أصحاب المصالح من تنظيم حملات الضغط والمناصرة أو التشويه والاستهداف من دون الحاجة إلى توظيف عناصر بشرية، وهو أمر يزيد من خطورة تلك الحملات ويقلل تكلفتها بشكل كبير.
من بين البرامج الجديدة التي ظهرت في هذا الصدد برنامج المحادثة “جي بي تي” الذي يمكن عبره تنظيم حملات ضغط كبيرة ومؤثرة بكبسة زر واحدة، بسبب اعتماده آليات الذكاء الاصطناعي، التي تمكنه من صناعة رسائل وبثها من آلاف الحسابات في توقيت متزامن، بحيث تعطي الإيحاء بأن آلاف المستخدمين يحتشدون من أجل قضية بعينها.
قبل ثلاثة أعوام، أعلنت شركة “فيسبوك” أنها “حذفت 5.4 مليار حساب مزيف” من منصتها، وما فهمناه آنذاك أن “فيسبوك”، الذي يمتلك قاعدة مستخدمين شهرية في حدود 2.5 مليار مستخدم، كان يستضيف حسابين مضللين مقابل كل حساب محدد الهوية، ويتيح لهما بث الأكاذيب وتسميم الأجواء، قبل أن يتمكن من حذفهما.
وعندما سمعنا عن صفقة شراء إيلون ماسك لتطبيق “تويتر” تبين لنا أن صراعاً كبيراً يدور من أجل تحديد عدد الحسابات الزائفة على تلك المنصة المؤثرة، كما تبين لنا أيضاً أن عدد تلك الحسابات أكبر بكثير من المعلن.
أما “تيك توك” الذي يجد رواجاً كبيراً خصوصاً في قطاعات المراهقين والأطفال، فإنه يخضع لمحاسبة وتدقيق في عديد الدول، بسبب “شيوع” الممارسات الضارة عبره.
كثير مما نعتقد أنه رأي عام حقيقي يعكس مواقف ووجهات نظر أطراف فاعلة في المجتمع قد يكون مجرد برنامج متطور تمتلكه جهة ما بغرض إحداث أثر جماهيري معين.
عندما يتم تطوير برامج إلكترونية تعتمد آليات الذكاء الاصطناعي، وتستطيع أن تجري محادثات كاملة من دون توجيه بشري، وأن تبث رسائل متزامنة عبر آلاف الحسابات، فإن الرأي العام في أي بلد يصبح عرضة للتلاعب والتأثير الضار من قوى مجهولة.
ستواصل “السوشيال ميديا” تقديم الفرص للمجتمعات حول العالم، لكنها مع ذلك ستواصل تصدير المخاطر، وأحدثها كما نرى سيكون القدرة على خلق رأي عام مصطنع ومضلل بكبسة زر من خلال برامج محادثة تستخدم أحدث التجليات التكنولوجية.
نقلا عن الوطن .