لم يجد أعتى مؤيدي تلك الوسائط ذرائع كافية لنقض كلام أمبرتو إيكو؛ إذ يبدو أن تحولها إلى فضاء لـ “البلهاء” أو “الحمقى”، بحسب وصفه، بات محل توافق واسع في جانب المستخدمين، وحتى هؤلاء الذين يديرون تلك المنصات ويحققون الأرباح الخرافية من تفاعلاتها النشطة، يعترفون عملياً بصحة هذه الفكرة، خصوصاً عندما يجتهدون في إرساء المعايير المُحددة للتفاعل عبرها.
أو يقيدون بعض العبارات وحقوق الاستخدام، في حال خرق “الأكواد” التي “يجتهدون” لتفعيل أثرها.لكن تغيراً خطيراً طرأ على عالم تلك الوسائط في السنوات الأخيرة؛ إذ تحولت إلى آليات اتصال سياسي كاملة الأركان، ليستخدمها القادة والمفكرون ورجال السياسة والحكومات بنهم وشغف شديدين، على حساب الوسائط “التقليدية” التي حظيت لعقود طويلة بميزة أن تكون منابر مُعتمدة لحديث المسئولين.وبعد رحيل أمبرتو إيكو بعامين، كان موقع “تويتر” ساحة لسجال دار بين زعيمين سياسيين لدولتين نوويتين؛ أولهما هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وثانيهما هو زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون.
من حسن حظ أيكو أنه لم يكن موجوداً حين دار هذا السجال، حيث قال الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، إن “الزر النووي موجود دوماً على مكتبي”، في إشارة إلى أن بلاده تحولت إلى قوة نووية، وأنه قادر على استخدام هذا السلاح ضد أي عدو بمجرد ضغطة على هذا الزر؛ ليرد ترمب عليه عبر “تويتر” قائلاً: “كيم جونج أون قال لتوه إن الزر النووي موجود على مكتبه دوماً، هلّ يبلغه أحد في نظامه المتهالك والمتضوّر جوعاً بأنني أنا أيضا لدي زر نووي، ولكنه أكبر وأقوى من زره، وبأن زري يعمل؟”.
لم يكن إيكو موجوداً أيضاً حين حظر “تويتر” ترمب على المنصة الرائجة، بداعي أنه يروج لمعلومات “كاذبة”، ويحرض على الفتن، وبالتالي لم يدرك أن “فيالق الحمقى” التي تحدث عنها باعتبارها تضم أشخاصاً من غير ذوي الحيثية أو القدرة على التحكم في ما يقولونه، يمكن أن تضم أيضاً أشخاصاً يحتلون أعلى مراتب المسئولية السياسية في أعظم البلدان وأكثرها قوة.
يبدو أن تلك الوسائط تنطوي على إغراء كبير لتخطي حدود التفكير العاقل والكلام الواعي، وأن هذا الإغراء لا يقف سحره عند المتعطلين أو رواد الحانات وفاقدي الأهلية السياسية والفكرية، ولكنه يتخطى ذلك ليشمل قادة ومسئولين رفيعي المقام.
في الأسبوع الماضي، أقدم الرئيس الروسي السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري مديفيديف، على مغامرة طائشة، حين قرر أن يشارك الجمهور توقعاته بشأن العام 2023.وفي تلك المغامرة، توقع مدفيديف أن تزيد أسعار النفط إلى 150 دولاراً أمريكياً للبرميل الواحد، وأن ينهار الاتحاد الأوروبي بعد عودة بريطانيا لعضويته، وأن يُلغى تداول اليورو كعملة للاتحاد الأوروبي.
لقد توقع الرئيس الروسي السابق أيضاً أن تندلع حرب أهلية في الولايات المتحدة، وأن يضحى الملياردير ورجل الأعمال البارز ومالك “تويتر” إيلون ماسك رئيساً لها.
ليس هذا فقط، لكنه توقع كذلك أن ينشأ “الرايخ الرابع” في ألمانيا، وأن تندلع حرب بينه وبين فرنسا، ينجم عنها تقسيم القارة الأوروبية، فضلاً عن انفصال إيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، إضافة إلى انهيار نظام “بريتون وودز”، ومعه صندوق النقد والبنك الدوليين.
من حق أي سياسي أن يشاركنا توقعاته، لكن المسئولية السياسية تستوجب أن تكون تلك التوقعات مدروسة، وأن تنطلق من شواهد أو قرائن تعزز إمكانية وقوعها، وهو أمر لم يحدث في مغامرة مدفيديف للأسف.
من الإنصاف القول إن وسائل الإعلام الروسية الرسمية سعت إلى تخفيف وقع هذه التوقعات الطائشة، من خلال ما قالت إنه “تقييم لتوقعات مديفيديف”، وفي هذا “التقييم” حاولت أن تقلل من صدمة الجمهور العالمي، الذي كون صورة قاتمة لرجل دولة وسياسي بارز احتل أرفع المناصب في دولة نووية كبيرة.
ويقتضي الإنصاف أيضاً القول إن عالم “الإعلام التقليدي” الذي سبق هذه الوسائط الجديدة في حمل رسائل القادة والسياسيين الكبار إلى الجمهور العالمي، كان قد قاسى بدوره من بعض الزعماء الذين أفرطوا في الحديث التافه والتوقعات الطائشة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
لكن ما بات واضحاً الآن أن تلك الوسائط أسهمت بقوة في تعزيز “الحماقة” والحديث التافه والمنفلت، وأنها وفرت مجالاً رحباً للمستخدم العادي لكي يمارس تلك “الحماقة”، كما أغرت قادة ومسئولين بأن يتورطوا في هذا المستنقع، في انقطاع غريب عن مقتضيات الاتصال السياسي وضوابطه.
نقلا عن الوطن .