لقد شَرُفت الأمة العربية برسالةٍ إنسانيةٍ ساميةٍ حملها ابنٌ من أعظم أبنائها وأشرفهم نسبًا ومكانةً، محمد بن عبد الله ﷺ، الذي رفع راية التوحيد، ودعا إلى تحرير الإنسان من كافة أشكال العبودية، واضعًا أسسًا لحياةٍ متحضرةٍ راقيةٍ مبنيةٍ على قيمٍ سماويةٍ سامية، أساسها العدل، ومنتهاها الرحمة، وبينهما تعاليم أخلاقية متصلة بعضها ببعض لبناء المواطن الصالح. وقد قررت الرسالة نصوصًا واضحةً وأوامرَ إلهيةً لا تقبل الجدل، وضعت أسسًا جليةً لحقوق الإنسان، وحررته من كل ما يعيق حركته في حياةٍ كريمة، سواءً في اختيار دينه أو أسلوب حياته، بشرط ألّا يترتب على سلوكه إضرارٌ بنفسه أو بغيره.
تلك هي مبادئ السلوك الحضاري في التعامل بين الإنسان وأخيه الإنسان، حيث نرى في القرآن الكريم أسمى صور الحوار وعظمته، بين الخالق سبحانه وملائكته، وبين الخالق وعباده، دون بطشٍ أو مصادرةٍ للرأي، فهو سبحانه يعلّمنا كيف يكون الحوار، مخاطبًا العقل بالمنطق تارةً، وبالأمثال تارةً أخرى، ويقرّب لنا النتائج من خلال العرض الرائع لأحداث الأمم السابقة، لنستفيد من تجاربهم ونتجنب أخطاءهم، حتى نسير على الطريق الآمن.
وانطلاقًا من هذا المفهوم، فقد كانت الأمة العربية سبّاقةً إلى اعتماد أسلوب الحوار الهادف لتحقيق مصلحة جميع الأطراف، وتوفير الجهد والمال والدم، بديلًا عن الخلافات والنزاعات، خصوصًا بين القادة العرب، التي تكاد أن تنسف ما تبقى من روابط الأخوّة، وتقطع أواصر العروبة ورابطة المصير المشترك.
ومن شأن اتباع هذا النهج أن يقدّم للعالم صورةً حضاريةً مستمدةً من تعاليم ديننا الحنيف وقيمه في التعامل، حيث يتقدم كل طرف إلى الآخر بمد يد المودة والسلام، اقتداءً بمنهج محمدٍ عليه الصلاة والسلام، امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ﴾ (سورة النحل، الآية 125)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ﴾ (سورة فصلت، الآية 34).
في ظل التحديات الراهنة، حيث يواجه العالم اضطرابات سياسية متزايدة، وتتصاعد التهديدات والتوترات الدولية، إضافةً إلى الأزمات الاقتصادية التي باتت تعصف بالدول، محدثةً موجاتٍ من التضخم والركود الاقتصادي الذي يثقل كاهل الشعوب.
فإن الأمة العربية تقف اليوم أمام مفترق طرق، إما أن تستعد لمجابهة هذه الأعاصير الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عبر تعزيز التكامل والتعاون المشترك، أو تجد نفسها في موقف يزيد من معاناة أبنائها، ويعمّق من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعلها أكثر عرضةً للاستغلال والضغوط الخارجية.
إن المرحلة القادمة تفرض على الدول العربية إعادة النظر في سياساتها الاقتصادية والاستراتيجية، والاستفادة من الفرص الناشئة وسط هذا التغير المتسارع، حتى لا تبقى مجرد متلقٍّ للقرارات الدولية، بل تصبح لاعبًا رئيسيًا قادرًا على حماية مصالحه وبناء مستقبلٍ أكثر استقرارًا لأبنائه.