تعددت التحليلات والنبؤات، وتساءل المعنيون وغير المعنيين عن أسباب حدوث الزلزال المدمر، ووجد البعض أن تهاون المسلمين أمام حرق المصحف أثار غضب الله تعالى فكان ما كان، متناسين رحمته سبحانه ومتجاهلين كل الأسباب العلمية والجيولوجية لحدث كهذا.
بعيداً عن الزلزال، اعتدنا في صغرنا على قيام أهلنا بحرق أوراق التقويم المعلق على الحائط بعد انتهاء العام، خشية أن تحتوي هذه الأوراق على آيات من كتاب الله، فلا تلقى في سلل المهملات، ضمن يقين تام أن ما يحرق مجرد أوراق، بينما كتاب الله محفوظ حتى قيام الساعة.
إنما يستحق موضوع حرق المصحف قليلاً من الوقوف عنده، ففي فعل استفزازي مكرر، أقدم متطرف في السويد منذ مدة على إحراق نسخة من المصحف الشريف، واستدعى ذلك إدانة واسعة، فيما عزت بعض النقاشات الفعل ذاته لأسباب سياسية بحتة، تأخذ ردود الأفعال بعين الاعتبار، حيث أصبح معروفاً أن أفعالاً كهذه تثير مشاعر المسلمين وتغضبهم، فلا يختلف إثنان على قدسية المصحف بالنسبة لأي مسلم، ويمكننا فهم تأثره بهذا الفعل، طالما بقي رده في حدود الاستنكار والإدانة ولم يتعد إلى أعمال عنيفة.
لكن ثمة ما يستدعي التساؤل هنا، هو أننا نقدس التنزيل الحكيم لكننا “حرقنا” فعلياً ما جاء به، وألقينا بتعاليمه عرض الحائط ولم نعمل بها، وإن كانت القاعدة الفقهية أن “السنة قاضية على القرآن” بمعنى القضاء أي الحكم، أصبحت بالنسبة لنا “السنة” المخترعة قاضية بمعنى ناسفة لما جاء في كتاب الله، فأهملناه لصالح اجتهادات بنات عصرها، أحياناً منسوبة للرسول (ص)، وكثير من الأحيان لا علاقة له بها، أفلا يستدعي هذا شيء من الإدانة والاستنكار؟ أم طالما أن هذا ما وجدنا عليه آباءنا فله من القداسة ما يجعله غير قابل للمراجعة؟
في كتاب الله الإسلام دين رحمة عالمي ختم مع رسالة محمد (ص) ليصلح لكل زمان ومكان، فيه دعوا الخلق للخالق، والناس كلهم عباد الله، وكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً هو مسلم، علم ذلك أم لم يعلم، والاختلاف بين المسلمين هو اختلاف ملل لا يتعدى الشعائر، بينما يتفق الجميع على القيم الأخلاقية العليا، وعلاقة الإنسان بالله من اختصاص الله وحده، يحاسب عليها يوم القيامة.
فإن أردنا الرسالة فقد تقولنا على الله وجعلنا الحرام مفتوح إلى يوم القيامة، يمكن لأي خريج من المدارس الشرعية أن يزيد عليه وينقص منه، بينما المحرمات في التنزيل الحكيم واضحة ومعدودة، جميعها ضمن القيم الأخلاقية إذا استثنينا محرمات الطعام، والمنهيات أيضاَ واضحة يمكن لأي مهتم تبين أن جميع قوانين العالم تنهى عنها كالتجسس والانتحار وأكل الأموال بالباطل.
في كتاب الله بر الوالدين هو قيمة عليا، كذلك القسط لليتيم، وعدم ارتكاب الفواحش وعدم قتل النفس وعدم الغش وعدم التقول على الله.
فيه المرأة كالرجل تماماً لها ما له وعليها ما عليه، والزواج مودة ورحمة، ويمكن أن ينفصلا بشروط صعبة يحكمها الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. وكل ما نعرفه عن الطلاق دون علم المرأة، أو عدم امتلاكها حق الطلاق، أو بيت الطاعة، أو إخراجها من بيتها، أو إخراج الأرملة من بيتها أثناء العدة، كلها لا تمت لكتاب الله بصلة، كذلك زواج القاصرات، حيث يتطلب الزواج الرشد، والبلوغ لا يعني الرشد للطرفين.
فيه الوصية هي الأساس في انتقال الإرث، ويحق للإنسان التصرف بأمواله كيف يشاء، على أن يأخذ بالاعتبار الوالدين والأقربين والذرية الضعاف وذوي القربى من مساعدين أو عمال، أما إذا اعتمدنا “لا وصية لوارث” كيف إذاً نقرأ قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة 180) علماً أن هذه الصيغة مشابهة إلى حد كبير لصيغة الصيام، لكننا لا نتهاون مطلقاً في عدم صيام الأفراد، بينما نتغاضى عن الوصية، فإن لم توجد فهناك القوانين المعروفة التي يمكن لها أن تقرأ بتأني لتنصف النساء بشكل عام.
فيه الإنفاق بند رئيسي في التقوى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة 2- 3) وبالتالي فإن المجتمع يقوم على التكافل، وكل ينفق مما آتاه الله، مالاً أو علماً أو فناً أو رعاية، ولو قيض لإنسان أن يمنح وقتاً إضافياً حين الموت سيتمنى الرجوع كي يتصدق {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون 10).
في كتاب الله التشريعات تنوس بين العفو والصفح وحدود عليا تتفق مع أرقى القوانين التي سنتها البرلمانات، وتنسجم مع كون رسالة محمد (ص) رسالة رحمة للعالمين، رفعت عنهم إصر وأغلال الشرائع السابقة.
فيه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ومن ثم لا سلطة للدين، سوى ضميرك فقط، أما السلطة فهي شأن دنيوي له قواعده.
فيه إلهنا رحمن رحيم، عدالته مطلقة لا يمكننا قياسها، طمأن الناس {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر53)،
في كتاب الله دعوات للعلم والعمل والتفكر والتدبر والسير في الأرض لاستكشافها والبحث في الكون وسبر أغواره، وتسخيره لخدمة الإنسانية، ومن ثم مطابقة ما نصل إليه مع الإشارات التي وقع بها الله كتابه. فهل نحن من يفعل ذلك؟
حري بنا أن نعيد كتابنا للمكانة التي يستحقها، ثم بعد ذلك يمكننا أن نلوم الآخرين على حرق نسخ من أوراقه، أو نهملهم عملاً بقوله تعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد 17).
نقلا عن هات بوست .