نستعرض اليوم دراسة بعنوان “تفسير القرآن بالقرآن: دراسة في المفهوم والمنهج” للباحثة سعاد كوريم والتي تتفق فيها مع الباحث والمفكر علي محمد الشرفاء الحمادي في انه لا تستطيع أية صِيغ لغوية أو فلسفات إنسانية أن تتوازن مع الآيات الإلهية من حيث الحكمة والفكرة والصياغة اللغوية ومقاصدها لخير الإنسانية فهي فوق قدرة تقييم الإنسان؛ حيث أنها لا تخضع للقوانين العقلية والاستنباطات الظرفية لكل عصر أو تكون تحت رحمة أفهام المفسرين وأحكامهم.
وتقول الدراسة ان كل عمل تفسيري لنص ما يتضمن ، اقتراحا لمعادلة تفسيرية، أحد طرفيها هو النص المفَّسر، وطرفها الثاني هو المقولة المفِسرة. وتتسع هوة المفارقة بين الطرفين أو تضيق، تبعا لمقصدية النص، وكفاءة المتلقي، وكفاية المنهج، ومدى التقارب بين النص وتفسيره. ولا يخرج تفسير القرآن الكريم عن هذا الإطار، من حيث إن هاجسه الأساس، هو إداُك قصد الله من كلامه وإيصالهُ إلى المخاطبين به. فإذا علمنا أن أحد طرفي المعادلة في تفسير القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، تبين لنا مدى الحرج المعرفي الذي يقع فيه المفسر؛ إذ ما من مقولة تفسيرية، ترتقي إلى درجة التقارب مع النص القرآني، والوفاء بأداء معناه، إلا إذا كانت من نفس جنسه ومادته. ولعل المدخل الأقدر في هذه الحالة على إيجاد معادلة متكافئة الأطراف، هو تفسير القرآن بالقرآن، نظرا لما قد يكفله من وحدة في النسق، وانسجام في الدلالة، ناتجين عن انتماء كل من المفِسر والمفَّسر إلى نظم واحد، مشكل من لغة واحدة، وصادر عن متكلم واحد. ويستلزم التحقق من هذا الافتراض القيام بدراسة لمفهوم تفسير القرآن بالقرآن ومنهجه، تهدف إلى تكوين تصور دقيق عن مصاديقه وأدواته، على نحو يم ِكن من اختبار كفايته، والحكم على طبيعته ووظيفته؛ إذ من شأن التصور الذي تكفله تلك الدراسة، أن يكشف عن حدود قدرة تفسير القرآن بالقرآن على تقليص هامش التأويل، وتقليل فوارق المعنى بين النص وتفسيره، وتأمين طريق الفهم عن الله تعالى، وإدراك قصده من كلامه.
وهو ما يؤكد الشرفاء عليه في قوله “فكلمة الله ستظل هي العليا للمؤمنين مصدقين بها مطيعين لأوامر الله دون تردد أو ظنون أوشكوك، ولا تحتاج لضوابط تصحح مسارها ليصدقها الناس، ولا يملك العقل البشري أن يجاري رقي المعاني فيها وسلامة وجهتها وخير مقاصدها للناس جميعًا، أو أن يصل إلى الحكمة الإلهية من بعض التشريعات فيها”.
علي محمد الشرفاء
كلمة الله ستظل هي العليا للمؤمنين مصدقين بها مطيعين لأوامر الله دون تردد أو ظنون أوشكوك، ولا تحتاج لضوابط تصحح مسارها ليصدقها الناس، ولا يملك العقل البشري أن يجاري رقي المعاني فيها وسلامة وجهتها وخير مقاصدها للناس جميعًا، أو أن يصل إلى الحكمة الإلهية من بعض التشريعات فيها”.
وايضا تؤكد الدراسة علي انه لا يخفى ما لذلك من أهمية بالنسبة للخطاب الشرعي فقها وامتثالا وحفظا، فلابد من فِقه معهود المتكلم في استعمال عناصر الخطاب، وضمان امتثاله من قبل المكلفين به؛ لأن صحة العمل بالقول تبٌع لصحة العلم به، ولابد أيضا من حفظه من التحريف الدلالي، الذي يفضي إلى ضياع المعنى الأول المقصود في أصل النظم.
وتزداد الحاجة إلى تناول هذا الموضوع إلحاحا؛ نظرا لافتقار الدراسات القرآنية إلى وإ أدبيات تُفِرُده بالبحث والتصنيف؛ إذ الملاحظ أن أعمال القدماء، ن تضمنت مادة مهمة في تفسير القرآن بالقرآن، والت جملة من مباحثه وأنواعه، إلا أنها لم تخصه بمؤلف حامل لاسْه، جامع لكل ما يتعلق به على نحو يتسم بالإحاطة والاستيعاب، يُفصل مفهومه، ويؤصل لمنهجه، ويشرح طريقة اشتغاله. ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع إلى مكتبة التراث التفسيري بمعناه الواسع، الذي يشمل كل عمل تناول القرآن الكريم، بنوع من الدرس العلمي، كما هو الحال بالنسبة لكتب التفسير، وعلوم القرآن، والمناسبة، والوجوه، والنظائر، وتوجيه المتشابه وغيرها.
ولا تخرج أعمال المح َدثين أيضا عن هذا الحكم؛ فرغم تضمنها لمؤلفات تحمل عنوان “تفسير القرآن بالقرآن،” إلا أن الغالب عليها، كان الاهتمام بالجانب التطبيقي أكثر من غيره؛ إذ غاب عنها التفصيل في المفهوم، والتأصيل للمنهج، وشرح طريقة الاشتغال، إلا في حالات قليلة، تضمنت إشارات إلى بعض ما سبق، دون أن تتسم بالعمق المطلوب. ويمكن التمثيل لذلك بجملة من العناوين منها؛ كتاب “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن” لمحمد بن الأمين الشنقيطي، 1و”التفسير القرآني للقرآن” لعبد الكريم محمود الخطيب.2
واستدعت هذه العوامل مجتمعة، إعادة دراسة “تفسير القرآن بالقرآن”، بحسب ما تقتضيه طبيعة الموضوع من مناهج؛ إذ تطلب البحث في المفهوم تحليلَه إلى وحدات صغرى، هي المفردات المكونة له، ووص َف كل مفردة منها، بحسب ما تفيده مختلف مستويات الدلالة، ثم إعادةَ تركيب ذلك كله، للبث فيما يتولد عنه من إشكالات. وتطلب البحث في المنهج، التعريف به، والبيان التحليلي لأصوله النظرية، والحلقات الأساسية للعمل الذي يقوم به، مع تصنيف أدواته الإجرائية ووصفها، مشفوعة بتطبيقاتها من القرآن الكريم.
وقد حاولت هذه الدراسة ضبط مفهوم “تفسير القرآن بالقرآن” من خلال تحليل ألفاظه إفرادا وتركيبا، مستثمرة معطيات الدرس اللغوي، وموظفة لها في استخلاص خصائص القرآن، وخصائص تفسيره وخصائص التفسير به. وحاولت الدراسة مقاربة إشكالات جوهرية مرتبطة بالتفسير عموما، وبتفسير القرآن بالقرآن على وجه الخصوص، من قبيل مناقشة مدى حاجة الكتاب الفعلية إلى ما يـُبَـيِنُه، ومدى حاجة المتلقي إلى وساطة تقِرب إليه مدلولات كلام الله، ومن قبيل تحديد الجهة التي يصدر عنها تفسير القرآن بالقرآن، ومستوى حجيته، والمقدار الذي يدخل في مسماه. كما حاولت الدراسة، تأصيل منهج هذا النوع من التفسير، مع بيان سبل استقاء أدواته الإجرائية وسبل توظيفها.
ويمكن إجمال أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، في فكرة أساس مفادها، أن تفسير القرآن بالقرآن ليس هو أقوى التفاسير على الإطلاق، فكونه مستمدا من القرآن الكريم نفسه، لا يكفي لتحديد مستوى حجيته، لأن ذلك المستوى تابع لمستوى مؤهلات المفسر؛ إذ هو المسؤول عن الربط بين آيات القرآن الكريم. فالتفسير بطبيعته، عملية مركبة تتدخل في تشكيل نتيجتها أموٌر منها: تصوُر المفسر لحدود عمله، وتصوُره للنص القرآني وطبيعته، وتصوُره للتفسير ووظيفته.
ومن هذا المنطلق فإن أصح ربط تفسيري بين آيات القرآن الكريم، هو الربط الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يمكن أن نسميه “البيان النبوي للقرآن بالقرآن،” أما ما عداه من ربط، فإن تقييمه يكون بناء على ملاحظة مدى قربه أو بعده المنهجي من ذلك البيان النبوي.
أما الجوانب التي تدعو هذه الدراسة إلى الإقبال عليها، بمزيد من تعميق النظر والبحث، لتكوين صورة متكاملة عن حقيقة هذا النوع من التفسير فتتمثل فيما يلي:
- إنجاز دراسة تاريخية ترصد تطور تفسير القرآن بالقرآن منذ نشأته في عهد النبوة، إلى حاله في واقع الدراسات القرآنية المعاصرة، ويقتضي ذلك البحث عن المواضِع التي يرجَّح كونُه فيها تفسير القرآن بالقرآن، واستخراج مادته العلمية منها.
- التأصيل لسائر الأدوات الإجرائية المعتمدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن، بردها إلى أصولها النظرية التي تستمد منها مشروعيتها
- إنجاز دراسات نقدية تنظر في التفاسير التي ترفع شعار تفسير القرآن بالقرآن، للكشف عن مدى تمثلها لمفهومه والتزامها بضوابط منهجه.
وإضافة إلى هذه الجوانب فإن مجال التفكير يبقى مفتوحا لمعالجة قضية ذات طبيعة جوهرية، تثيرها النهايات المعرفية لمفهوم تفسير القرآن بالقرآن ومنهجه. ذلك أن حصر الصحيح المعتبر من هذا التفسير في البيان النبوي للقرآن بالقرآن، وفي التفاسير التي تستقي منه ضوابط المنهج، ثم تُوظفها في الربط بين الآيات، يفرض معالجة الأسئلة الآتية:
– هل يفضي اعتماد البيان النبوي واستصحاب منهجه، إلى حصول اليقين من إدراك القصد الإلهي الثاوي في القرآن الكريم، ومن ثم الاطمئنان إلى أن ما توصل إليه المفسر هو عين مراد الله تعالى؟
وهل ُيمَكِن البيان النبوي ومنهجه من الوصول إلى المعنى الأول المقصود في أصل النظم؟ أم أن المعنى الذي تقترحه المعادلة التفسيرية، يبقى محت ِملا لأن يصيب القصد أو يخطئه، مهما كانت العدة المنهجية التي يعتمد عليها المفسر؟
ولعل التناول المنهجي الأنسب، لحسم النقاش الذي تثيره هذه الأسئلة، هو النظر في ما روافد احتمال انفتاح الدلالة وعدم إدراك القصد؛ إذ بحسب حال الروافد وجودا أو عد وقوة أو ضعفا يتم الحكم على الاحتمال بالاعتبار أو الإلغاء. ولعل المداخل الأنسب للنظر في تلك الروافد، هما مدخلا اللغة و المقاصد؛ فمن جهة اللغة يتجاذب قضية القصد طرفان: أحدهما هو ما تفرضه الطبيعة التواصلية للغة، من أن الأصل هو إدراك المعنى ما لم يوجد ما يحول دون ذلك، والثاني هو ما تفرضه العلاقة الجدلية بين اطلاقية الكلام الإلهي، ونِ أسبِيِة التعقل البشري، من أن الأصل هو تعذر الإحاطة بمراد الله. ومن جهة المقاصد يتجاذب قضية القصد طرفان آخران: أحدهما هو ما يقتضيه أصل وضع الشريعة للإفهام من إمكان الوصول إلى المعنى المقصود، المتضمن في الخطاب الشرعي، والثاني ما يقتضيه النظر في مقدار الفهم المجِزئ، الذي يحصل به التكليف من أن الشارع لم يطالب المجتهدين بإدراك عين مراده، وإنما طالبهم بما ترجح لديهم أنه المراد، ومعلوم أن ذلك محكوم بمتغيرين نسبيين هما: السقف المعرفي وتأثير الواقع