تحرير العقول في الخطاب الإلهي
إنَّ رسالة الإسلام، التي بعث بها الله سبحانه وتعالى- رسوله محمد ﷺ– يحملها في كتاب كريم، لِيَهْدِي الناس كافةٌ سَبيل الخير والصلاح، ليُخرجهم من الظلمات إلى النور، فيُحرِرَهُم من استعباد البشر للبشر، واستعباد الأصنامِ لعقول الناس، وتحرير عقولهم من الارتهان للروايات والإسرائيليات.
هكذا جاءَ الخطاب الإلهي ليُحرر الفكر من الاستسلام للأمم السابقة ، بإطلاق حرية العقيدة ، وحرية التفكير ؛ لتوظيفه في البحث والاستنتاج ، والإبداع واستنباط العلوم في شتى مناحي الحياة من خلال التوجيهات الربانية في كتابه الكريم ، حينما ذكر الله في كتابه الذين اتخذوا من سبقهم حجة لكي يبرروا اتباعهم للأمم السابقة في عقائدهم ودياناتهم وشعائر العبادات عندهم بقوله تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ ( الزخرف: ٢٢) ، وبهذه الآية يوجه الله المسلمون بألا يكونوا أسرى لأفكار الأقدمين وتفسيراتهم ومفاهيمهم ، فلهم زمانهم وظروفه وعصرهم ومتطلباته. ومن أجل ذلك يجب على الناس ان يستنبطون من القرآن الكريم ما يمكنهم من تحقيق متطلبات حاضرهم من تشريعات، وقيم وفضيلة؛ تؤكد أن كتاب الله صالح لكل زمان ومكان بما يدعوا إليه من الرحمة والعدل والتعاون الذي يتكيف مع الفطرة في كل العصور ولكل المجتمعات الانسانية.
ولتحقيق تلك الغاية النبيلة، وضع الله سبحانه في خطابه الإلهي” القرآن الكريم”، القواعد التي تحدّد خارطة الطريق للإنسان في حياته الدنيا، وتعينه على أداء واجبات العبادة دون تناقض بين متطلبات الحياة الدنيا والتكليف الإلهي، بعبادة الواحد الأحد وأداء التكاليف الدينية من صلاة وصيام وزكاة وحج.
رسالة السماء .. تزكية النفوس والارتقاء بأخلاقيات الإنسان
إنَّ المولى عز وجل جَعَلَ الناس شعوباً مختلفة وقبائل متعددة، لا ميزة لإحداها على الأخرى، حيث يتطلب هذا التعدّد والاختلاف في الأعراف والثقافات البشرية والتقاليد المختلفة التعارف بينهم وتعلّم لغة كل منهم، ليتعاونوا فيما يُحقق لهم الخير والمنفعة للناس والأمان والتقارب من خلال التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والصناعي والزيارات السياحية والاستطلاعية، للتعرّف على ثقافات الشعوب وتبادل العلوم والمعرفة الإنسانية؛ لجميع خلقه، وهو وحده سبحانه من يحكم على أعمالهم ويعلم من يعمل صالحاً أو طالحاً.
فلا ميزة لأي إنسان على آخر، إلا بما يقدمه من عمل صالح لنفسه ولمجتمعه، فلا حصانة لأحدٍ عند الله، إلا من آمن بالله والتزم بتكاليف العبادات والمعاملات والعمل الصالح.
وما كانت رسالات السماء على طول الزمان إلا نداء لبنى البشر من أجل تزكية النفوس ، والارتقاء بأخلاقيات الإنسان ، واتباع قيم الفضيلة في القرآن ، التي يتحقق بها صياغة شخصية الإنسان ؛ لتكون ذات نفس وادعة عادلة محبة للخير والسلام ، تمارس الرحمة وتنشر المودة بين الناس ، محبة للحياة ، كارهة للظلم والشر ، مقبلة على العمل الصالح ، تلبي طلب السائلين ، وتعين الفقراء والمساكين ، وتمسح دموع الأيتام ، وتساعد ابن السبيل ، وتدعو لتوظيف العقل في استكشاف المعارف والعلوم والأسرار الكامنة في جوف الطبيعة ، واستغلال النعم التي أودعها الله لعباده في الارض ؛ ليتسنى للبشر استنباط قوانين الحياة التي أودعها الله في كتابه الكريم للإنسان حيثما كان ؛ ليقوم الناس على عمارة الأرض واستغلال ثرواتها لما ينفع الإنسان.
إخراج الأمة من المأزق.. دور العلماء والمثقفين
إنَّ هذه المقاله انما هي دعوة لمثقفي وعلماء الأمة المنوط بهم الآن إخراج الأمة من مأزقها في تصحيح المفاهيم المغلوطة ، والتوقف عن تقديس تراث الأولين ، واجتهادات الأمم السابقة التي لا تلزم المسلمين اتباعها ، ولا تتفق مع ما أنزله الله على رسوله الأمين ، حين تمكنت تلك المفاهيم القديمة والمصطلحات الشاذة أن تصرف الناس عن القرآن الكريم ، وتخلق حالة من التناقض بين قول رسول الله ﷺ ، الذي أنزله الله تعالى عليه في كتابه الكريم ، والذي تضمن الخطاب الإلهي للناس كافة ؛ ليبلغهم به ، ويعلمهم الحكمة وشعائر العبادات ، ويقتدون به في سلوك الأخلاق والقيم النبيلة الراقية التي يتعامل بها مع الناس جميعاً بغض النظر عن جنسهم ، ودياناتهم بالحرص عليهم والرحمة ، يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، يعرض عليهم رسالة الإسلام ، ويبين لهم طريق الخير والصلاح والعدل والحرية والسلام. فهي وقفة مسؤولة أمام الله بكل تجرد وإخلاص في سبيل الحق من دون تمييز لطائفة ، أو مذهب ، أو فرقة ، أو حزب ، واستبعاد جميع الروايات ومصادرها لكل الأطراف ، والاقتصار على القرآن كمرجع وحيد يتطلب منهم التعاون والبحث الجاد المتجرد وصولاً لمفهوم موحد يلتئم عليه شمل الأمة كي تعتصم بحبل الله ، والتعرف على ما عنته وقصدته وبينته آيات القرآن الصريحة فيما هو خير للإنسانية ، على أن تنطلق وفى قناعتنا وعي تام ويقين ثابت ألا مرجعية للدين الإسلامي سوى مرجعية واحدة ، ألا وهي كتاب الله الذي أنزله الله على رسوله محمد ﷺ ، والَّذِي أمره سبحانه بإبلاغه للناس كافة.
رسالة الإسلام.. نور العدالة والرحمة والسلام
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدى القوم الكافرين) (المائدة: ٦٧). وقد امتثل نبينا عليه الصلاة والسلام للتكليف الإلهي ، وبلغ الرسالة ، وأدّى الأمانة، فلتتضافر جهودنا جميعًا ، ليعلو صوت القرآن جلياً ، ويسطع نوره على البشرية جمعاء- عدلاً ورحمة وحرية وسلاماً ، وأن نعاهد الله سبحانه كما أمرنا باتباعه ، ألا نتخذ من دون القرآن مرجعية ، أو أن تزاحمه روايات أو اجتهادات بشرية ، أو أساطير إسرائيلية ؛ فتنتقص من عليائه الذي علا كل الأشياء حكمة وبياناً ونوراً لنسترد ما فقدناه باتباعنا لروايات الشياطين ، وأتباعهم من الناس ، حتى نعيد للإسلام عزته ومكانته فيما يدعو إليه من خير وصلاح للبشرية جميعاً لينزل الله على الناس رحمته وبركاته ؛ ليعيشوا في أمن وسلام. لقد كانت قوى الشر متربصة ومستنفرةٌ للهجوم على دين الإسلام، وحاولت بشتى الوسائل اغتيال رسالته، رسالة الحرية والعدل والمحبة والسلام.
اتباع الكتاب المحكم: الطريق إلى النجاة والخلاص
وهكذا استدعت تلك القوى شياطينها ومفكريها ، ليبتدعوا أخباراً مُلفقة وإشاعاتٍ مُزيفةً وأحداثاً مزورة ، واختلقوا الدعايات المضللة ، ونسبوا الكثير من ذلك إلى روايات عن الصحابة ، واجتهاد العلماء وتفسيراتهم ، حيث اعتمد كل منهم على مصادره الخاصة ، ومرجعيات مختلفة فتكونت زعامات دينية متعددة اتخذت من الروايات مصادر لمساعدة الخلفاء في تمكين سلطتهم ، وحماية ملكهم ، وأن باتباعهم سوف يُرضي الله عليهم ، ويُدخلهم الجنة ، إضافة إلى ما منحتهم تلك الروايات مكانة اجتماعية وسياسية ، ترضى غرور النفس البشرية ، وما توفره لهم من ميزة اجتماعية ، تجمع لهم المريدين والأتباع ليكونوا طوع أمرهم ؛ ليوظفوهم في خدمة مصالحهم الدنيوية التي تنضح بالأنانية والاستعلاء على الأتباع. فليصوب المسلمون مسارهم اليوم، وفق قواعد المنهج الإلهي في الكتاب المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لنكون وبحق الأمة الوسط؛ التي تحمل الشعلة السماوية لتضيء للإنسانية طريق الخير والصلاح، وليكن موقفاً شجاعاً فيه قربى إلى الله، وتقوى تلبية لأمره باتباع المنهج الإلهي الذي فيه الخلاص، والنجاة من غضب الله يوم الحساب، وفيه منفعة الناس وصلاحهم في الحياة الدنيا.
فكما أمر الله المسلمين بالتدبر في كتابه الكريم، فإنَّ المسلمين اليوم مدعوون لدراسة الأسباب التي أدت للخلاف والاختلاف، والفرقة بين المسلمين، وخلقت حالة من العداء والصراع فيما بينهم منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وحتى يومنا هذا، ولنسأل أنفسنا هذا السؤال الملح الذي انتظر الإجابة قروناً طويلة.