من أهم القضايا التي يتردد صداها في كتابات الأستاذ الشرفاء قضية “تصويب الخطاب الديني”، وأظن أن هدف الأستاذ من هذه المقولة أبعد بكثير من مقولة تجديد الخطاب الديني التي أصبحت مقولة تتردد على كافة الأصعدة حتى لدى المتطرفين أنفسهم. إن ما يستهدفه ويصبو إليه الشرفاء يتجاوز هذا المسعى المحدود، إنه في رأينا يُمثل محاولة للانقلاب على الخطاب الديني السائد في واقعنا المعاصر، بوصفه خطابًا جموديًا وتكفيريًا وإقصائيًا يُرسخ للقهر والطغيان والبُغض والإرهاب وازدراء الإنسان. في مقابل ذلك يُناضل الأستاذ الشرفاء من أجل أن يقدم لنا خطابًا مناوئًا ومضادًا، خطابًا جديدًا قوامه الحب والحرية والتسامح والعدالة الإنسانية، وأظن أن هذه الإشكالية تمثل القضية المحورية في كل ما كتبه الشرفاء، فهو لا يمل من التأكيد على أن الإسلام ليس ديانة محلية وإنما هو ديانة إنسانية وكونية، وأن هذا الدين جاء لإسعاد وارتقاء الإنسان، وليس لأشقائه وتعذيبه وإرهابه، إنه دين يحفظ للإنسان كرامته ويصون إنسانيته واستقلاله وحريته، أو كما يقول في مستهل كتابه “وثيقة الدخول في الإسلام”: “يدعونا الإسلام إلى الرحمة والعدل والإحسان وحرية الاعتقاد والسلام بين جميع الناس، ويُحرم عليهم الظلم والبغي والعدوان وقتل الإنسان”.
ومن أهم القضايا التي يوليها الشرفاء اهتماماً خاصة قضية حرية الاعتقادات وحرية العقيدة ثابتة نصاً في قوله تعالى:{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}(سورة الكهف: آية 29)
وهذا ما يؤكده الشرفاء بقوله:
“ينهى الله في تشريعه عن إرغام الناس في الدخول في دين الإسلام، وترك لهم الحرية المطلقة في اختيار عقيدتهم ومذاهبهم وأديانهم دون إكراهٍ، أو يفرض على الناس أداء الشعائر الإسلامية بالقوة في الصلوات والزكاة والصوم والحج، وترك الله للناس الحرية المطلقة في تأدية شعائر العبادات، وهو حق خالص من حقوق الإنسان لا رقيب عليه غير الله وحده يقضي ما يشاء على عبده”.
ولذلك يخاطب الله رسوله r بقوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(سورة البقرة: آية 256)
وقوله أيضاً: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (سورة يونس: آية 99)
ومن الأخطاء الفادحة التي يكشف عنها الشرفاء في نقده للخطاب الديني السائد، ذلك الوهم الذي يعتقد فيه المسلمون، وهو أن من قال: “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله” دخل الإسلام وأصبح مسلماً يؤدي شعائر العبادات !
وقد مرت على ذلك الفهم الخاطئ عدة قرون، ومع ذلك فلم يزل مستقرًا وراسخًا بأذهان المسلمين، رغم أن الدخول في الإسلام مسألة أخرى أنها ليست مجرد نطق بضع كلمات، ولا مجرد أداء طقوس للعبادات، إنها مسئولية الأمانة التي حملها الإنسان، أمانة إعمار الأرض، والالتزام بهذا العهد المقدس بين الإنسان والإله، من أجل أن تعم السعادة على البشر أجمعين. وقد قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (سورة الأحزاب: آية 72)
يقول الأستاذ الشرفاء شارحًا معنى الأمانة في كتابه: “ومضات على الطريق”: “إنما تعني الأمانة: العقد المقدس، بكل شروطه، والحرية في الاختيار بالالتزام بالعقد المقدس، أو من عدمه في تنفيذ بنود العقد المقدس، وهو القرآن الكريم. تلك البنود التي تؤسس لإقامة مجتمع المدينة الفاضلة، عند تطبيق المنهج الإلهي الذي أنزله الله على رسوله في آيات كريمة – حينئذ – تعم السعادة الناس جميعاً، وتتنزل عليهم رحمات الله وبركاته.
ونظراً لأن التزام المسلمين بالعقد المقدس اقتصر على العبادات فقط فإن ذلك يُعد إخلالاً خطيرًا في التقيد بكامل بنود العقد وشروطه، مما أدى إلى إحداث خلل في العلاقات الإنسانية في المجتمعات العربية، حين دب الصراع بينهم والقتال، وتوحشت النفوس، وتحجرت القلوب، ومات الضمير، مما أدى إلى تخلف العرب، وهيّأ الظروف باحتلال أوطانهم ونهب ثرواتهم.
واستغلت قوى الشر نشر الإشاعات وخلق الفتن بواسطة الروايات والإسرائيليات، وانشغل العرب المسلمون بالحروب بينهم، وساهم عدم الأمن والاستقرار في مجتمعاتهم إلى الانصراف إلى حشد الجيوش بدلاً من التعليم والابتكار”.
هكذا وفي كلمات مكثفة يشخص الأستاذ الشرفاء أزمتنا والتي تتمثل في تلك المؤامرة الكبرى التي مُورست على هذا الدين الحنيف من خلال بعض الفقهاء ورواة الأحاديث ممن أدخلوا الكثير من الأحاديث المغلوطة والروايات الغريبة والمدسوسة، والتي حادت بهم عن صحيح الدين، وصنعت دينًا جديدًا وإسلامًا موازيًا للإسلام الحقيقي. ومن ثم فقد ترسخ لدى العامة والخاصة خطاب ديني مشوه يقوم على العنف وإقصاء الآخر وتكفيره تمهيداً لقتله وترويعه.
وكان من نتيجة ذلك أن تفرق المسلمون وأصبحوا أحزابًا وشيعًا وقتل بعضهم بعضًا دون أسباب واضحة، وبدلاً من أن تكون الأمة العربية قاطرة الحضارة الإنسانية تحولنا إلى كائنات هاموشية لا وزن ولا قيمة لها مما جعلنا ألعوبة وأضحوكة في أيدي الأمم الأخرى !
ومن المبادئ الأخرى التي يدافع عنها الأستاذ الشرفاء مبدأ استقلالية الفرد المسلم، وهو المبدأ الذي أهدره رجال الدين من خلال إصرارهم على ممارسة دور الوصاية ودور الكهانة على العباد، في حين أن الله جعل لكل إنسان الحق في اختيار عقيدته وحسابه عند الله يوم القيامة، فلا يحق لإنسان أن يُحاسب غيره على ما يعتقده، الله وحده هو الذي يفصل بين خلقه يوم الحساب تأكيداً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة الحج: آية 17)
فلا وصاية لمخلوق على آخر، حتى الأنبياء أنفسهم لا وصاية لهم على عباد الله، فلم يكلف الله رسله وأنبياءه ليكونوا رقباء على عقائد الناس أو وكلاء عن الله في الأرض يحاسبون البشر على أعمالهم، فالله وحده هو من يملك هذه السلطة، لأنه وحده المتفرد بإصدار أحكامه على الناس يوم الحساب، لأنه يعلم ما تخفيه الصدور.
أما مهمة الرسول محمد r فتتلخص في إبلاغ الرسالة {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}(سورة الرعد: آية 40)
ويخاطب الله رسوله قائلاً: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (سورة الأعراف: آية 188)
ومن القضايا المثارة حالياً بكثرة قضية المرتد، والتي يتم استغلالها سياسياً للانتقام من الخصوم واستباحة دمائهم مثلما حدث مع عدد من شهداء الفكر (فرج فودة ونصر حامد أبو زيد من مصر ومحمود محمد طه من السودان) ويذهب الأستاذ الشرفاء إلى أن من يقول بقتل المرتد يتجرأ على حق الله، ويخالف ما جاءت به الآيات الكريمة والتي حسمتها سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة: آية 54)
إن علاقة الإنسان مع الله علاقة مقدسة، ولقد ترك لنا الله لنا حرية الإيمان، وحرية الالتزام بآياته دون تدخل من البشر، لا نبي ولا رسول ولا خليفة ولا سلطان ولا أولياء ولا أمراء، ولا أيّ أوصياء.
إن رؤية الأستاذ علي الشرفاء تتلخص في أن تحرير الخطاب الديني يرتبط بتحرير الإنسان العربي من كافة صور التبعية والخضوع، سواء أكان هذا الخضوع خضوعًا لمن نصبوا من أنفسهم أوصياءً على الناس (الشيوخ والفقهاء) أو الخضوع للآخر الغربي الذي يتعلق به العرب بصورة مهينة وحقيرة. ولن يمكن لنا أن نحقق حلم التحرر من الآخر دون الخروج من عباءة الماضي، ومن صنمية الأفكار الموروثة وعبادة الأسلاف.
بكلمة واحدة فإن الشعار الذي يرفعه دائماً الأستاذ الشرفاء: “تصويب الخطاب الديني” معناه تصويب المسار الفكري والعقائدي للإنسان العربي من خلال العودة للينابيع الصافية والنقية للدين الإسلامي في القرآن الكريم، واستبعاد كافة الموروثات الباطلة التي استقرت بوجدان المسلمين وباتت تشكل الجزء الأكبر من عقيدتهم في العصر الحالي.
إن تصويب الخطاب الديني ليس الهدف منه تحرير الخطاب الديني فحسب، بل تحرير الإنسان العربي من كل أزماته الثقافية والأخلاقية تمهيداً لاستعادة إنسانيته الضائعة، ومن ثم يصبح قادرًا على العيش مع الآخرين بإيجابية وحب وتسامح وسلام، والأهم من كل ذلك أن يكون قادراً على الإيمان والتفكير وممارسة الحرية في كافة شئون حياته اليومية والدينية والسياسية بحرية واستقلالية.