يرى الكاتب الدكتور محمد الجابرى فى بحثه ” الكتاب فى القرآن والسنة ” أن من المفاهيم الإسلامية الأصيلة مفهوم “الجهاد” الذى يترجم خطأ إلى اللغات الأجنبية بمعنى “الحرب المقدسة” وهو معنى غير مناسب وغير دقيق! فما “الجهاد”، إذن، من المنظور الإسلامي؟ نقرأ في معاجم اللغة: الـجَهْد (بالفتح) : الـمشقة، يقال :” اجْهَدْ جَهْدَك في هذا الأمر”، أي ابلُغْ غايتك. والـجُهْد (بالضم) الطاقة. ولا يقال اجْهَدْ جُهْدَكَ. أما في القرآن الكريم فلم يرد لفظ “الجهاد” كـ”اسم معرف بأل” (هكذا الجهاد) وإنما ورد الفعل (جاهد، يجاهد) والمصدر: “جهاداً” مقترناً في الغالب بفعله، ولم يرد منه في الذكر الحكيم مصدر المشاركة (مجاهدة) مثل “قاتل مقاتلة” لأن فعل “الجهاد” هو من جانب المسلم، لأنه يقاتل دفاعاً عن النفس أو في سبيل الله. أما مقاتل المسلم فيقع خارج هذا المعنى.
ويوضح الكاتب انه وردت ثلاث آيات مكية في القرآن ذكر فيها “الجهاد” والمعنى فيها منصرف إلى “غير القتال” بالسيف أو غيره، لأن القتل والقتال لم يكن أسلوباً في الدعوة في المرحلة المكية، وبالتالي فمعنى “الجهاد” في الآيات المكية ينصرف إما إلى معنى الحِجاج والإقناع (القتال بالكلمة، لا بالسيف)، وإما إلى قمع هوى النفس، وكبح الشهوات… الخ. الآية الأولى (حسب ترتيب النزول) هي: قوله تعالى مخاطباً رسوله الكريم: “فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ (بالقرآن) جِهَاداً كَبِيراً”، ( الفرقان 52). والمعنى: “لا تطع الكافرين فـيـما يدعونك إلـيه من أن تعبد آلهتهم، ولكن جاهدهم جهاداً كبـيراً (جادلهم وأقم الحجة عليهم)، حتـى ينقادوا للإقرار بـما فـيه” . والآية الثانية هي قوله تعالى : “وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ” (العنكبوت 6)، والمعنى: “وَمَن جَاهَدَ” نفسه في منعها مما تأمر به، وحملِها على ما تأباه “فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ” لها، لأن منفعة ذلك راجعة إليها، وإنما أمَر الله، عز وجل، ونهى رحمة لعباده؛ وهو الغني عنهم وعن طاعتهم”. وهذه الآية هي كقوله تعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ” أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه، فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد” . والآية الثالثة قوله تعالى : “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” (العنكبوت 69) والمعنى : “الذين يعمَلون بما يعلَمون، يهديهم الله لما لا يعلمون”. وفي هذا المعنى نفسه قوله عليه الصلاة والسلام : “من عمِل بما علِم علّمه الله ما لم يعلم”.
ويقول الكاتب ان هذا عن الآيات التي نزلت في مكة عن “الجهاد” أما في المدينة (أو في الطريق إليها) فقد نزلت آية الإذن في القتال في السياق التالي: “إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ! وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ” (الحج 38- 40): ثلاث آيات تشكل سياقاً واحداً مجمل مضمونه: إن الله هو الكفيل بالدفاع عن الذين آمنوا، في مكة قبل الهجرة، والذين كانوا يتعرضون للظلم والأذى من طرف مشركي مكة، وبالتالي فعلى هؤلاء المسلمين ألا ينساقوا مع الرغبة في الانتقام من كفار قريش بنفس أسلوب هؤلاء، القائم على القتل غيلة (الاغتيال)، أي دون مواجهة صريحة تتيح للمعتدَى عليه الدفاع عن نفسه.
وبحسب الكاتب فانه يرى أن الله سبحانه وتعالى أكد أنه لا يقبل مِثْل هذه الردود التي وصف من تصدر منه بالخيانة والكفر. لكن بعد أن أصبح المسلمون قوة مادية في المدينة بعد الهجرة إليها، فإن الله يأذن لهم بقتال كفار قريش، أولئك الذين ظلموا المسلمين فقتلوا منهم وأخرجوهم من ديارهم بغير حق… الخ. وقد بين تعالى أن الحكمة في الإذن بالقتال هي “دفع الناس بعضهم ببعض”: بمعنى دفع ظلم بعض الناس لبعضهم بإقرار حق الدفاع للمظلوم عن نفسه ودينه وماله… الخ.
ويوضح الكاتب أيضا ان القتال المعني هو المواجهة الصريحة المعلنة التي تخلو من الغدر بالخصم وقتله غيلة، وقد أكد تعالى هذا المعنى في القرآن الذي نزل في المدينة فاستنكر الغدر بالعدو أو اغتيال أفراده من دون مواجهة صريحة تجعل كلاً من المسلم والكافر على علم بنية الآخر في مقاتلته. قال تعالى: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ (تعلمن) مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (أعلمهم أنَّك نقضت عهدهم لئلا يتوهَّموا منك الغدر)، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ” (الأنفال 58).
وهذا الشرح يتفق كليا مع مقال المفكر العربى على محمد الشرفاء الحمادي فى مقاله “فلسفة القتال والجهاد فى كتاب الله.. قتال المعتدين” ونصه كالتالي،،
لقد وضع الله سبحانه فى شريعته فى الذكر الحكيم حق الإنسان فى قتال المعتدين على أرضه، وعلى عرضه، وعلى حقه في الحياة في قوله سبحانه (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة-190).
حق الدفاع وحرمة الاعتداء
ففي هذه الآية شرع الله للإنسان حق الدفاع عن النفس فقط، وحرم عليه الاعتداء على الناس بأي وسيلة كانت، وأقر الله في شريعته بأنه لا يحب المعتدين.. ولكن المسلمين الأوائل حرفوا شريعة الله في حق الدفاع عن النفس وتحريم العدوان، بأنهم وظفوا كلمة الجهاد التي تعني مجاهدة النفس ليستقيم سلوك الإنسان كما أمره الله في اتباع شرعته ومنهاجه في القرآن الكريم.
الجهاد ليس غزو أوطان ولا سفك دماء
وليس توظيف الجهاد في غزو الأوطان وسفك دماء الأبرياء حين خدعوا الناس بمبررات الفتوحات، واستحلوا كل المحرمات التي حذرهم الله من ارتكابها بغيا وظلماً وعدواناً.. علمًا بأن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله الكريم أمره بدعوة الناس للإسلام بقوله سبحانه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل-125).
لا إكراه في الدين
كما حذر الله رسوله عليه السلام بعدم إكراه الناس على الدخول فى الإسلام فى قوله سبحانه (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس -٩٩)، وقد حدد الله سبحانه مهمة رسوله ليبلغ الناس آيات الذكر الحكيم، ويشرح لهم مقاصدها وحكمتها، لما يحقق لهم السعادة في الدنيا، والحياة الطيبة في ظل الرحمة والعدل والإحسان والسلام، وتحريم قتل الإنسان، واحترام حريته في الدين الذي يقتنع به، ويمارس شعائره من صلوات ودعوات حسب ما يدعو له دينه الذي يتبعه.
ومَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
حين وصف الله رسوله عليه السلام بقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (الأحزاب – 45/47) إضافة إلى ما سبق فقد خاطب الله رسوله عليه السلام بقوله (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) (الأنعام -107).
لست عليهم بمسيطر
وقول الله أيضاً مخاطبًا رسوله فى تحديد صلاحياته بشأن دعوة رسالة الله للناس بقوله (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية -٢٢).
حرية الإنسان المطلقة
كل تلك الآيات السابقة حددت بكل وضوح محددات صلاحية الرسول، بعدم إكراه الناس على الدخول في الإسلام بالقوة، أو بالتهديد لحياتهم أو في رزقهم، أو أي شكل من أشكال الضغط النفسي، أو الاعتداء عليهم، فالله سبحانه وضح لرسوله في القرآن المجيد حكمًا ثابتًا لا يقبل التأويل حين منح الإنسان الحرية المطلقة في اختيار دينه، ليتحمل مسئوليته وحده أمام الله يوم الحساب، فلا رقيب عليه ولا قوة تفرض عليه دينًا آخر في قوله (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف -٢٩).
ليس هناك وصي على الناس
كل الآيات التي سبق ذكرها لم تعط رسولاً ولا نبياً ولا عالماً ولا شيخ دين أن يكون وصيًا على الناس أو وسيطًا بينهم وبين الله سبحانه، يراقبهم في شعائرهم الدينية، أو يكره الناس على دين معين بكل الوسائل غير المشروعة، إنما الدعوة للإسلام يجب أن تكون مثلما كلف الله بها رسوله عليه السلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بقتل الإنسان والعدوان عليه، واستباحة أرضه وسبي نساء الناس، وخلق الفزع والذعر لدى الآمنين.
غزو الأوطان يتنافى مع الإسلام
إنها دعوة الشيطان الذي يحرض على الجرائم وارتكاب المعاصي وغزو الأوطان بخداع الناس باسم الجهاد، وحينما يذكرنا الله سبحانه بوصف الرسول عليه السلام بالأسوة في قوله سبحانه (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب -21) ليتأسى به المسلمون، وقد جعل الله رسوله قدوة للمسلم الحق والمؤمن الصادق بكتابه والعمل بشرعته ومنهاجه.
محاربة النفس الإمارة بالسوء
ولذلك أمر الله المسلمين بجهاد النفس لكي يقتدي الإنسان بالرسول الأمين، ويحارب النفس الأمارة بالسوء المتضامنة مع الشيطان، ليحكم زمامها ويوجهها نحو اتباع الرسول الكريم في صفاته، التي وصفها القرآن الكريم. ومن أجل ذلك أمر الله المسلمين بالجهاد ليكونوا من عباد الرحمن، أن يجاهدوا في الله نفوسهم وشهواتهم وأطماعهم، ويكبتوا غرائز الشر في قلوبهم، ليحل محلها الرحمة والعفو والغفران، وينشروا السلام والمحبة بين الناس ليعيشوا حياة طيبة مبنية على التعاون والوئام، وحرم عليهم العدوان، كما أمر الله سبحانه المسلمين بقوله (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة -2).
كتاب الشيطان
تلك هى دعوة الله للناس فى الذكر الحكيم، أما ما يخالف دعوة الله وذكره فى آيات القرآن، فهو لا يمت بصلة لكتاب المسلمين، إنما تلك المواقف والسلوكيات والأعمال من كتاب الشيطان، فويل للذين حرفوا مقاصد الخير في آيات الذكر الحكيم، من حساب عظيم يوم الحساب، يوم يخاطب المجرمون ربهم، كل منهم يقول (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّاَلِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتَا ليتني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أضلني عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءني وَكَانَ الشَّيْطانُ للإنسان خَذُولاً) (الفرقان 27/29) وقول الله في تحذيره للذين كذبوا بآيات الذكر الحكيم (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (الأعراف -40).
تحريف كلام الله
تلك نهاية الذين حرفوا كلام الله، وخدعوا الناس باسم الجهاد لسفك دماء الأبرياء، واستباحة المحرمات، واتبعوا سبيل الشيطان وساء سبيلا، ويوم القيامة كل يبحث عن ملجأ بعدما أدرك الحقيقة، يبحث عن وسيلة يتوارى عما ينتظره من خزي وعار وعذاب أليم، فلا يجد غير ملائكة غلاظ شداد، يشدونه إلى نار الجحيم خالدًا فيها، بئس ما كسبت يداه غير الندم وحرارة الحمم، تكوي ظهور المجرمين الذين خدعوا المسلمين.