لقد كانت البعثة النبوية بداية لمرحلة جديدة لإرساء خارطة طريق للإنسانية جمعاء، بما أنزله الوحي على رسول الله محمد بن عبد الله من آيات بيّنات في القرآن الكريم، ومن عبادات وتشريعات ومواعظ وأخلاقيات تؤسّس لفجر جديد يشرق على البشرية، راسماً لهم عناصر الحياة الكريمة في جو من السلام والإيمان والأمان.
لتسعى المجتمعات الإنسانية لتعمير الأرض واكتشاف كنوزها، وتسخير خيراتها لخير الإنسان في كل مكان، مما يحقق قيام المدينة الفاضلة ليعيش الناس فيها متساوين في الحقوق والواجبات في ظل العدل والرحمة والحرية والسلام، حيث تتنزل عليهم بركات السماء خيراً ورزقاً.
وقد تسلط على الخطاب الإلهي الذي أنزله الله على رسوله أقوام ابتعدوا عن كتاب الله، الذي يدعوهم للخير والصلاح، وأنشأوا كتباً مغايرة للآيات وما تدعو إليه من احترام العقل وتوظيفه في التدبر في مقاصد الآيات لمنفعة الإنسان وصلاحه، ودعوة للتطور والبحث في القرآن الكريم وما يدعو إليه لاستنباط الحقائق العبادية، والالتزام بالتشريعات الإلهية، وممارسة الآداب القرآنية قولاً وسلوكاً.
فقد شوّهوا التعليمات الإلهية للناس، مما أدى إلى تحريف رسالة الإسلام باستحداث عشرات الآلاف من الروايات، حتى طغت الروايات على الآيات. وتحقق لأعداء الإسلام استهداف القرآن الكريم وعزله عن أن يكون المرجعية الإلهية للناس، حتى جاءت شكوى الرسول -عليه الصلاة والسلام- لربه تؤكد تلك الحقيقة في قوله سبحانه: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” (الفرقان: 30).
حدث ذلك بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- منذ أربعة عشر قرنًا إلى اليوم، علمًا بأن الله سبحانه حدد بوضوح لا يقبل الشك والتأويل مهمة الرسول -عليه السلام- في التكليف الإلهي، مخاطبًا سبحانه رسوله الكريم في قوله:
“كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ” (الأعراف: 2-1).
“يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ” (المائدة: 67).
وقد جاء هذا ليبلغ الناس بآيات الله لتهديهم إلى الطريق المستقيم. وقد أكد سبحانه ذلك للرسول بقوله:
“فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ” (الزخرف: 43-44).
يوصي رسوله بالتمسك بالقرآن الكريم وألا يحيد عنه، وأن يذكّر به الناس، وهو ذكر للرسول ولقومه، وسوف يُسألون عنه اتباعهم له يوم الحساب. وما توضحه الآية الكريمة هو أن التبليغ للناس برسالة الإسلام يكون بتلاوة القرآن عليهم، وشرح مقاصد آياته لمنفعة الناس وصلاحهم، وتعريفهم بالتشريعات والمواعظ والأخلاقيات، كما قال سبحانه:
“كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ” (البقرة: 151).
فلم يُنزِل الله بعد كتابه المبين والذكر الحكيم أحاديث قدسية أو غير قدسية مستندة إلى روايات مستحدثة. أناس مغرضون ذوو أهداف خبيثة لإثارة الشك والالتباس والفتنة بين المسلمين، لإضعاف الإسلام وجعل المسلمين في صراع دائم للبحث عن حقيقة رسالة الإسلام وهديه، بعد أن التبس عليهم الحق والباطل، مما أدى إلى تفرق المسلمين، وادعاء كل طائفة أنها الوصية على الإسلام، وهي الأكثر معرفة بدين الله.
فتقاتلت بينهم أودية من الدماء، عطلت مسيرة رسالة الإسلام وأعاقت دعوة الرحمة والعدل والحرية والسلام، لبناء المجتمعات الإنسانية المسالمة والمستقرة.
لقد كلف الله سبحانه وتعالى رسوله بما جاء في الآيات الكريمة فقط، وبعلم الله الأزلي أن المسلمين سيهجرون القرآن، كما جاء في قوله تعالى: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا“ (الفرقان: 30).
وأنه سيحل محل القرآن روايات افترتها على الرسول، ومقولات نسبت إليه عن الصحابة، وسميت بالأحاديث، ليتم عزل القرآن كمرجعية وحيدة لرسالة الإسلام عن المسلمين، وتحل محله الروايات والإسرائيليات، في توجيه خاطئ لرسالة الإسلام.
تستهدف هذه التوجيهات خلق الفتن بين المسلمين، وتجعلهم في صراع دائم وقتال مستمر، ينتشر فيما بينهم خطاب الكراهية والريبة، ليتفرقوا طوائف وشيعًا وأحزابًا، لكل منهم كتابه وإمامته ومنهجه. لذلك يخاطب الله رسوله بقوله سبحانه في صيغة استنكارية: “)تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ“ (الجاثية: 6( تؤكد هذه الآية عدم اعتراف الله سبحانه بما سُمي بالأحاديث التي نسبوها للرسول ظلمًا وبهتانًا، وتحذير المسلمين من اتباع تلك الروايات والإسرائيليات المسماة بالأحاديث، لأنها ستتسبب في هجر القرآن واعتباره المرجع الوحيد لرسالة الإسلام، الذي يُستمد منه التشريعات لتنظيم شؤون حياتهم.
وهنا يختل ميزان العدل، ويحدث الشقاق والنفاق، وتنتشر الفتن. وذلك ما حدث في الماضي منذ أربعة عشر قرنًا، وما يحدث اليوم هو إعادة إنتاج نفس الفرق الضالة بأسماء مختلفة مثل “داعش”، و”الإخوان”، و”القاعدة”، و”التكفيريون”، وغيرهم الكثير، لأنهم هجروا كتاب الله واتبعوا روايات الشياطين فضلوا الطريق المستقيم.
كما أن الله سبحانه يخاطب رسوله أيضًا بأمر يدعو المسلمين للوحدة والالتفاف حول الكتاب المبين والاعتصام به، حتى لا يهجروا كتاب الله. وهو يدعوهم بقوله سبحانه: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا“ (آل عمران: 103.
ثم يحذرهم أيضًا بقوله: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ“ (الأنفال: 46) ويصف الذين فرقوا دينهم بقوله سبحانه: “إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ“ (الأنعام: 159.
ويقول أيضًا في تفرق المسلمين: “مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ“ (الروم: 31-32
حيث أن الله سبحانه يقول لرسوله: إن المسلمين الذين فرقوا دينهم لست منهم. كما أن الذين يسعون في خلق الفرقة بين المسلمين وصفهم الله سبحانه مثل المشركين، لأنهم لم يتبعوا ما أنزل إليك من تشريعات في القرآن الكريم، بالرغم من دعوة صريحة لهم من الله سبحانه في قوله:
“اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ“ (الأعراف: 3.
وبالرغم من الحقائق القرآنية التي وردت في بعض الآيات أعلاه، إلا أن الناس تم استغفالهم واستدراجهم بالروايا التي سُمّيت بالأحاديث افتراءً على الله ورسوله الأمين. فاتجهوا اتجاهًا مغايرًا لما يريده الله لهم من خير وصلاح وحياة ينتشر فيها التعاون والمحبّة والرحمة والحرية والسلام والعدل بين الناس.
وقد ساهم الفقهاء ومن تمّت تسميتهم بالعلماء والمفسرين الذين احتكروا فهم مقاصد القرآن ليصبحوا المرجعيات الوحيدة لرسالة الإسلام، حتى يسيطروا على عقول المسلمين ويوجهوهم حيث يريدون. وقد وصل بهم تجاوز الفرض الإلهي، الذي أمر الناس بالتدبّر في آيات قرآنه والتفكر في مقاصد تشريعاته لخير الإنسانية جمعاء، إلى أن أفتوا بقفل باب الاجتهاد والتوقف عن التفكر والتدبر في آيات الله.
وقد رفضوا أمر الله للناس في قوله سبحانه:“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا“ (النساء: 82.
وقوله سبحانه:“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا“ (محمد: 24.
وقوله سبحانه: “أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ“ (المؤمنون: 68.
وقوله سبحانه: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ“ (ص: 29.