نستعرض اليوم كتاب “بلاغ الرسالة القرآنية” للكاتب فريد الأنصاري والذي بين فيه، أن مقصده من كتابه هو وضع ورقة عمل لمثال تطبيقي ونموذج عملي لما أصَّل له من بلاغات القرآن العظيم، لوضع أسس لمشروع إصلاحي فردي وجماعي، مؤسس على البديهيات الدينية الاعتقادية والعملية، التي كان إهمالها مصدرَ ما وقع من البلاء المتسلط على الأمة الإسلامية.
يشبه الكتاب المشروع الذي يتبناه المفكر العربي علي محمد الشرفاء الحمادي، حيث يرى الشرفاء أن “الخطاب الديني” تحول اليوم إلى “دعوة للقتل والتكفير، ومرجعيته الصحابة ثم الروايات وبعدهما شيوخ الدين، قاصدا بالطبع استشهاد هذا الصنف من الخطاب بوقائع تاريخية لا يقين قاطع عليها من أيام الصحابة، مع التوسع في الصحابة ليشملوا، وفق رؤية هؤلاء، كل الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم الاستسلام لروايات منسوبة للرعيل الأول من الإسلام، لم تخضع لتمحيص علمي كاف، تلقفها الوعاظ المتشددون الذين نطلق عليهم في أيامنا اصطلاح “شيوخ الدين”، وراحوا يستنبطون منها الأحكام والفتاوى، التي تبرر التكفير، ومن ثم تعبد الطريق إلى القتل والتدمير. وذهب بعضهم إلى ما هو أخطر من ذلك حين تبنوا المواقف والاتجاهات والانحيازات التي تحقق مصالحهم ثم راحوا يبحثون في القرآن والحديث وأقوال الأولين من الصحابة وآراء الفقهاء عما يبررون به ما ذهبوا إليه، ولم يسلم القرآن نفسه من هذا التلاعب الفج.
أما “الخطاب الإلهي” في نظر الشرفاء فهو “دعوة للرحمة والتفكير” ومرجعه هو الله سبحانه وتعالى، ومنه النص الذي نزل به الوحي وهو “القرآن الكريم” ومن بعده محمد رسول الله، وهو الخطاب الذي تم الانحراف عنه، أو تجميده، أو إهماله، قصدا أو بغير وعي، أو تأويله تأويلا فاسدا منحرفا لخدمة مصالح ومنافع البعض، أو الاستجابة لأهواء البعض الآخر، أو بفعل الجهل والغفلة. ينطلق الشرفاء في تحديد الفرق بين هذين الخطابين من الآية (23) من سورة (آل عمران”، والتي يقول فيها الله تعالى: “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ”. ليقول هو معلقا على تلك الآية الكريمة: “طريقان لا ثالث لهما، طريق الحق وطريق الضلال، فمن اتبع طريق الحق وهو الخطاب الإلهي للناس كافة بلغة رسول آمين، ومن اتبع طريق الضلال في الخطاب الديني البشري، فالله يحكم بينهم يوم الحساب” ليرى أن مسؤولية الرسول كانت التقيد بتبليغ الرسالة التي تضمنها القرآن، ومن ثم يصبح هناك سؤال مبرر ومشروع وضروري وهو “من أين أتى منشئو الروايات الذين اختطفوا الرسالة بأكاذيب باطلة؟”. لهذا اصبح مشروع الشرفاء هو نفسه مشروع الانصاري للعودة الي الخطاب الإلهي.
وهذا ما بينه مؤلف كتاب “بلاغ الرسالة القرآنية للكاتب” للأستاذ “فريد الأنصاري” تحت عنوان (تبصرة في المنهج) مبرزاً كيفية كون الآية القرآنية بصيرة، وآياته بصائر للناس {هذا بصائر للناس} (الجاثية:20) شارحاً معنى (الآية) في القرآن، ووجه تسميتها بالآيات، وكونها تشكل نسقاً كونيًّا، يؤدي إلى الإبصار النفسي والقلبي، وأمثلة للتبصير من قبل الصحابة وغيرهم لآيات ومواقف؛ ما يدل على منهج التبصر لدى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، كما عرض المؤلف قصة بلاغ الرسالة القرآنية؛ وكيفية إدراك بلاغ الرسالة القرآنية المتمثل في تجديد الدين بتجديد الفهم السليم للإسلام، ومضمون الرسالة الذي يدور حول المرسِل والمرسَل والمرسَل إليه وقد تتبع المؤلف بلاغات الرسالة القرآنية السبع، التي أودعها في ثنايا كتابه كالآتي:
البلاغ الأول: اكتشاف القرآن تدبراً وتفكراً
أوضح هذا البلاغ أن اكتشاف القرآن يحصل بمعرفة القرآن، ثم اتباع منهج التدبر والتفكر في آياته ومعانيه لكشف أسراره ومقاصده، وأن القرآن روح، ومن أهم خصائص الروح أنه سبب الحياة، وباعثها في سائر الأحياء، فالحياة توجد بوجوده، وتنعدم بانعدامه، فالقرآن روح؛ لأنه سبب حياة هذه الأمة، وسبب حياة القلوب {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} (الشورى:52-53).
وأما التدبر في القرآن الذي هو منهج اكتشاف القرآن، فهو: النظر في مآلات الآيات القرآنية، وعواقبها ومواقعها من النفس، وآثارها على القلب والعمل، ومدى تطبيقها ومخالفتها. وإذا كانت تتعلق بالمجتمع ننظر في سنن الله فيه كيف وقعت؟ وكيف تقع اليوم؟ وعلاقة ذلك كله بالكون والحياة والمصير، وأما التفكر كما ورد في سياقات قرآنية، هو التأمل في بديع صنع الله، يحصل به في القلوب الخاشعة إحساس بالحياة، وشعور بعظمة الله الواحد القهار، والرهبة من جلال ملكه وعظمة سلطانه، وإيمان متين، وتسليم تام لقدرة الله.
البلاغ الثاني: التعرف على الله والتعريف به
يتعلق هذا البلاغ بأساس الدين، وأصل أصوله، وهو: التعرف على الله والتعريف به؛ باعتباره رأس العلم، وأسمى المعارف، وعليها تبنى جميع البلاغات القرآنية؛ فالدعوة إلى الله إنما هو تعريف بالله، من حيث كونها إنهاضَ المدعوين الغافلين عن الله، وعن وظيفتهم التي كلفهم بها في هذه الحياة، وإشعارهم بقرب الله منهم، وتذويقهم لحظة من لحظات المحبة الربانية عسى أن يتعلقوا بجمال الله.
والتعرف على الله والتعريف به، إنما يحصل من خلال القرآن عبر قراءة الرسالة الربانية إلى عباده، فأول مقصد القرآن هو تعريف الناس بالله المتكلم بالقرآن؛ فمعرفة الله لا تكون إلا عبر رسالته المتضمنة لكلامه في التعريف بنفسه.
ومفاتيح معرفة الله والتعريف به من خلال القرآن كثيرة، منها: تدبر الأسماء الحسنى التي سمى الله بها نفسه في القرآن؛ فقد عرَّف الله نفسه بأسمائه الحسنى، المتضمنة لمعاني العظمة والإجلال والقدرة على كل شيء، وذلك من خلال آيات عدة، منها: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم *هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} (الحشر:22-24) ومنها قوله سبحانه: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد} (الإخلاص:1-4)
ومدخل آخر لمعرفة الله هو أداء المؤمن حق الخالقية لربه الذي خلقه وأحسن خلقه، فيستفيد من تأدية هذا الحق معنى عظيماً لوجوده؛ فينطلق المسلم في توحيد الربوبية، الذي ينفتح بابه على العباد من الشعور بحق الخالقية، فكان أول وصف لذاته تعالى في بدء تعريفه بالله رباً {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق:1)
وينبعث من معرفة الله بما عرّف به نفسه، تعرُّفُ الإنسان على ذاته والكون الذي يعيش فيه، فالبحث عن الذات فطرة في الإنسان، ولن تُعرف الذاتُ إلا إذا عُرف سببُ وجودها وموجدها ومصيرها؛ وذلك متوقف على معرفة الله الواحد أولاً.
البلاغ الثالث: اكتشاف الحياة الآخرة
يتناول هذا البلاغ مفهوم الحياة التي وصفها الله تعالى بصفتين متقابلتين: الأولى هي: (الدنيا)، والثانية هي: (الآخرة)، فالحياة إذن طبقتان: الأولى تنتمي إلى عالم الشهادة، وهي حياتنا هذه التي نحياها، والثانية تنتمي إلى عالم الغيب، وهي الحياة الآخرة، التي تعتبر من أهم أركان الإيمان؛ فالإيمان بالحياة الأخروية قرين الإيمان بالله تعالى، كما ورد في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
البلاغ الرابع: اكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات
تضمن هذا البلاغ ما استخلصه المؤلف من تأمل وتدبر البلاغ القرآني في الصلاة المتمثل في: أن السير إلى الله من غير مسلك الصلاة ضرب من التيه، فكل أعمال المسلم راجعة إلى مدى سلامة هذا الأصل، قصداً، ووقتاً، وأداء. فالقرآن الكريم يضفي على الصلاة مذاقاً إيمانيًّا مستمداً من اكتشاف أسرار الصلاة، يدفع التالي للقرآن حق تلاوته إلى تذوق حلاوة الصلاة والإحساس بأثرها في النفس، وفي هذا السياق العام ورد الأمر بالصلاة مباشرة بعد تلاوة القرآن {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة} (العنكبوت:45).
فالإنسان المصلي حقاً تارك لكل منكر، فالله عز وجل ذكر في سياق الحديث عن صفات الفلاح في فاتحة سورة (المؤمنون) عدداً من الأفعال والتروك، فكان جانب الترك فيها أكثر حضوراً باللفظ، أو بالمعنى، كما في (الإعراض عن اللغو) و(حفظ الفروج) {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} (العنكبوت:45) لذلك أفردها الله بالذكر عقب ذكر التمسك بالكتاب {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} (الأعراف:170) فالصلاة هي آية المسلم، والعلامة الهامة التي تميزه {تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود} (الفتح:29) لأن الصلاة هي المعين الصافي الذي يتزود منه المسلم الخصال الحميدة والأعمال الجليلة من المعاهدة والرحمة {والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود} (الفتح:29)
والصلاة أهم ما يشع الإيمان في قلوب المؤمنين {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة:3) وأول صفات المؤمنين الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة على الصلاة {قد أفلح المؤمنون} إلى قوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} (المؤمنون:1-9) فالبلاغ القرآني في الصلاة يفيد بصيرة جامعة، وهي: أن الخير كله فاتحته وخاتمته وغايته ووسيلته الصلاة.
البلاغ الخامس: الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جاء الاهتمام القرآني الكبير بالدعوة إلى الخير المشتمل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتبار أن المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته، وجماعة إصلاحية؛ ولهذا شهد الله بالخيرية لهذه الأمة في قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما دعوة إلى الخير أولاً، والخير كل الخير معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو يؤدي إلى معرفة الله، وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو جهل بالله، ولابد لهذا الأمر أن ينضبط بضابط عام وهو: أن الأمر بمعروف ما، إذا كان يَنتج عنه منكر أكبر منه، يتوجب ترك ذلك الأمر، وكذلك النهي عن منكر ما، إذا كان يؤدي إلى ما هو أفظع منه، يتوجب ترك ذلك النهي؛ فالدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لها قواعد تجمعها آية {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} (فصلت:30) إلى قوله: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (فصلت:36) ومن خلال هذه الآيات تُستَشف عشر قواعد للدعوة إلى الخير، وهي:
الإعلان بالتوحيد بالقرآن {ربنا الله} (فصلت:30)
الاستقامة على قول: {ربنا الله ثم استقاموا} (فصلت:30).
التيسير وعدم التنفير.
الدعوة إلى الله لا غير {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله}( فصلت:33).
العمل الصالح أساس الدعوة إلى الله {وعمل صالحا} (فصلت:33)
إعلان الانتماء لجماعة المسلمين، والحرص على عدم تفريق وحدتهم العامة {وقال إنني من المسلمين} (فصلت:33)
عدم تسوية الخير والشر، والحق والباطل {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} (فصلت:34)
دفع الشر بالخير؛ وذلك بتحقيق المناط العام لعدم التسوية بين الحسنة والسيئة {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت:34)
الصبر على الأخذ بالمنهج القرآني {وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} (فصلت:35)
الحذر من الشيطان عند الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (فصلت:36)