نستعرض اليوم دراسة بعنوان “مشروعية الاختلاف في الإسلام” والتي تتفق في أهدافها مع المفكر على محمد الشرفاء الذي يدعو إلى التقيّد بالخطاب الإلهي وليس بالخطاب الآخر مؤكدا علي انه الحل الناجع لكل المشاكل المزمنة التي يتخبط فيها عالمنا الإسلامي فمعرفة الداء تؤدي إلى الاهتداء للدواء، وخير دواء للداء الذي ينهش مجتمعاتنا هو الاعتصام بالخطاب الإلهي دون سواه، كما يقول الشرفا الذي يبدو في كتابه هذا، صوت العقل والاعتدال والحرص على الدين الحنيف وتعاليمه الصافية، بما يتكفل بإصلاح كل خلل يمكن أن يتأتى جراء الانحرافات التي لا بدّ من حدوثها في كل المجتمعات وقبول الاخر والبعد عن العنف وهو الامر الذي تؤكد عليه الدراسة حيث تقول الدراسة في مستهلها ان القرآن يعتبر الاختلاف حقيقة إنسانية وحاجة طبيعية لا يمكن قمعها. وعلى هذا الأساس خلق الله البشر في ألسن وثقافات وجنسيات مختلفة، وفي هذا الإطار يمكن لنا أن نفهم – على سبيل التأويل – دعوة القرآن “يٰا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” ولذلك بيّن القرآن أنّ الإنسان أدرك منذ أوجده الله على وجه الأرض أهمية الحوار مع الآخرين من أبناء الملّة الإسلامية أو غيرهم من أتباع الملل الأخرى، إذ “كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ” .
ونستنتج من خلال هذه الآية القرآنية بحسب الدراسة أنّ البشر وإن اختلفت معتقداتهم وثقافاتهم ومذاهبهم فإنّهم متقاربون في الأسس الرمزية وفي قيمهم الإنسانية النبيلة. وهذا يعني أنّ مشروعية الحوار بين المجموعات الإسلامية المتعددة تكمن أساسًا في البحث عن القيم الدينية الأصيلة التي أرسلها الله رحمة للعباد فهجرها البعض تشبثًا بالفروع وربّما بفروع الفروع. فالحوار بهذا المعني بحث في الأصول المغيّبة والرّجوع إلى ينابيع الدين الأصيلة، وهذا ما تؤكّده معاجم اللغة، فابن منظور يرى أنّ أصل مادة “حوار” يعود إلى الحَور أي الرجوع عن الشيء وإليه، وحاورته يعني في اللّغة راجعته الكلام.
وتشير الدراسة الي ان هذا يعني أنّ الاختلاف في المذهب والرأي لا يلغي الوحدة بين المسلمين بل ربّما يدعّمها إذ أنّ اختلاف المسلمين في توحّدهم وتوحّدهم في اختلافهم. ولذلك اعتبر القرآن الاختلاف آية من آيات الخالق فجاء فيه ما يؤكّد ذلك “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ” .
وبحسب الدراسة فانه إذا كان القرآن قد أقرّ بأنّه “وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ موَلِّيهَا” فإنّه لا مبرّر أن نرفض حق الاختلاف وأن نصرّ على امتلاك الحقيقة الدينية دون غيرنا من المنظومات والمقاربات. و”وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” ولذلك خلقهم الله متباينين في رؤاهم وتصوّراتهم وهو ما يجسّده نصّ الآية التالية “لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” .
كما توضح الدراسة إنّ تأكيد القرآن على مشروعية الاختلاف ووجوبه باعتباره سنّة من سنن الكون وآية من آيات الخالق جعل من مقولة الحقيقة الدينية المطلقة مقولة هشّة لا تستجيب لخطاب القرآن ولا تعكس تاريخية المعتقدات الدينية ونسبيّتها. وعلى هذا الأساس بيّن القرآن أنّ الحقيقة المطلقة لا يعلمها إلاّ الله وعلى الإنسان أن يجتهد في تمثّل هذه الحقيقة بحسب وضعه التاريخي وسياقه الثقافي ولا يقدر على حسم هذه الاختلافات غير الله فهو فقط من يحكم بين المختلفين من بعد اختلافهم .
وتري الدراسة ان هذا التأكيد على نسبية الحقيقة الدينية ومشروعية الاختلاف قابله على مستوى التطبيق والتشريع حصر للحقيقة ووصاية مارسها بعض المفسّرين والفقهاء والأصوليين والمتكلّمين والسّاسة فأصبح كلّ “حزب بما لديهم فرحون” ، بل أصبح الانتماء إلى المذهب في بعض مراحل التاريخ الإسلامي أقوى أنواع الانتماء وأقدسها ممّ نتج عنه صراعات دامية وفتن أضرّت بالخلق والعمران بحسب الاصطلاح الخلدوني.
كما تشير الدراسة الي إنّ المتتبّع للآيات القرآنية التي تضمّنت حوارًا أو دعوة إليه أو حديثًا عنه يلاحظ أنّ التصوّر القرآني لمسألة الحوار بين الأفراد والجماعات اعتمد مقولة شمولية الحوار مقولة أساسية. فالحوار كلّ لا يتجزّأ فهو هدف ومنطلق وسلوك وشكل من أشكال الوعي بالذات وبالآخرين، لذلك جعل القرآن للحوار مستويات تبدأ من حوار الذات وصولاً إلى حوار الآخر “الأقصى” مرورًا بمحاورة من يشاركنا الملّة والثقافة.
وتؤكد الدراسة أيضا ان القرآن دعا في أكثر من آية إلى الحوار الذّاتي بما هو تفكّر وتدبّر فالإنسان مطالب بالتفكير في نفسه وفي الكون المحيط به. ولقد عبّر القرآن عن ذلك في أسلوب استفهامي استنكاريّ “أَفَلاَ تُبْصِرُونَ” تكرَّر في عدّة آيات كما هو حال الآية التالية. ولا نبالغ إذا ذهبنا أنّ القرآن في مجمله يدعو إلى التفكّر ويصعب علينا في هذا المجال البحثي الضيّق أن نقف على كلّ الآيات التي امتدح في القرآن أصحاب العقول وأولي الألباب، ودعا صراحة إلى مراجعة الذّات والتحاور معها، لأنّ الحوار الذاتي يؤمّن بناء الشخصية بناءً متماسكًا قادرًا على محاورة الآخرين.
وبحسب الدراسة فانه من الطريف أنّ القرآن نوّع من مجالات الحوار وعدّد أطرافه، فكما حاور الله الملائكة والأنبياء حاور أيضًا إبليس، وكذلك حاور خلقه من البشر وغيرهم من الكائنات الطبيعية. بل قد نجد من الناس من يحاجج الله في أسلوب حواري كما هو حال من: “قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً…”. وبالإضافة إلى ذلك نجد في القرآن محاورة الأنبياء لبقية الناس وحوار الناس بعضهم مع بعض.
واختتمت الدراسة بإنّ مقولة “الإسلام واحدًا ومتعددًا” ليست مجرّد شعار قد نتزيّن به أو نعتمده في تأثيث خطاب بل هو مشروع حضاري يتطلّب منّا جرأة وشجاعة ورغبة في المراجعة النقد.
واوصت الدراسة بضرورة الاهتمام المخصوص بمسألة تأويل القرآن من خلال التأليف والتحقيق وعقد الندوات نظرًا لأهمية المسألة في فهم اختلافات المسلمين وإقرار ثقافة التعدّد والتنوّع والانفتاح.
مع ضرورة مراجعة الأسس الكلامية والأصولية التي قامت عليها مقولة تكفير أهل القبلة وحثّ الخاصّة والعامّة على تجنّب تكفير المسلم وتبديعه وتفسيقه بتهمة مخالفة “الإسلام الحقّ” الذي يراه المذهب.
كما اوصت الدراسة بضرورة الانفتاح أكثر على مشاريع التعدّد الثقافي ذات البعد الإنساني للتنوّع الثقافي والتأكيد على مفهوم المواطنة لأنّ احترام المسلم باعتباره مواطنًا حرًّا ومسؤولاً قد يجنّبنا الوصاية عليه واتهامه بالخروج عن الحق والصواب.