نستعرض لكم دراسة حول تدبر القرآن للدكتور محمود احمد الدسري بعنوان “تدبر القرآن: أهميته وحكمه” حيث يستهل دراسته بتعريف التدبر بقوله ” ان التدبر هو النَّظر في أدبار الأمر. وهو يعني: التَّأمُّلَ في عواقبه، أو ما يؤول إليه. وتدبَّر الأمرَ: رأى في عاقبتِه ما لم يره في صدره، قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ﴾ [المؤمنون: 68]. أي: ألم يتفهَّموا ما خُوطبوا به في القرآن العظيم ويضيف الباحث ان خلاصة التَّدبُّر – في أصل اللُّغة: هو النَّظر في عاقبة الأمر والتَّفكُّر فيه، بحيث يشمل أواخر دلالات الكَلِمِ ومراميه البعيدة
وقد عرف الباحث «تدبُّر القرآن» اصطلاحًا بأن التَّدبُّر هو التَّأمُّل في أدبار الأمور وعواقبها، ثمَّ استُعمل في كلِّ تأمُّل، سواء كان نظرًا في حقيقة الشَّيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه والخلاصة في «معنى تدبُّر القرآن هي تفهُّم معاني ألفاظه، والتَّفكُّر فيما تدلُّ عليه آياته مطابقةً أو ضمنًا، وما لا تتمُّ تلك المعاني إلاَّ به من الإشارات والتَّنبيهات، وانتفاعُ القلب بذلك، بخشوعه عند مواعظه، وخضوعه لأوامره ونواهيه، وأخذ العبرة منه
واكد الدوسري علي ان أهميَّة تدبُّر القرآن العظيم تبرز في أمور كثيرة، يأتي في مقدِّمتها أنَّ تدبُّر القرآن وتفهُّم علومه من النُّصح لكتاب الله تعالى، وقد أشار إلى هذا المعنى أهل العلم، منهم ابن رجب رحمه الله بقوله: «وأمَّا النَّصيحة لكتاب الله: فشِدَّةُ حُبِّه وتعظيمُ قدرِه، إذ هو كلامُ الخالق، وشدَّةُ الرَّغبة في فَهْمِه، وشدَّةُ العناية لتدبُّره، والوقوف عند تلاوته؛ لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه.
مؤكدا علي ان النَّاصح من العباد يتفهَّم وَصِيَّةَ مَنْ ينصحه، وإنْ ورد عليه كتابٌ منه عُني بفَهْمه؛ ليقوم عليه بما كَتَبَ به فيه إليه، فكذلك النَّاصحُ لِكتاب ربِّه يُعنى بفَهْمه؛ ليقوم لله بما أمر به كما يحبُّ ويرضى، ثم يَنْشُرُ ما فهم في العباد، ويُديم دراسته بالمحبَّة له، والتَّخلُّق بأخلاقه، والتأدُّب بآدابه.
وأضاف الباحث ان هناك أمور أخرى تُبرز لنا أهميَّة تدبُّر القرآن الكريم، ومنها القلب الذي فيه وحشة لا تُزال إلاَّ بالأنس بكتاب الله تعالى، والتَّأمُّل في آياته، وفيه قلق وخوف لا يؤمِّنه إلاَّ السُّكون إلى ما بشَّر الله تعالى به عباده، وفيه فاقة لا يغنيها إلاَّ التَّزوُّد من حِكَمِ القرآن ومواعظه وعبره، وفيه حيرة واضطراب لا ينجيه منها إلاَّ الاعتصام بكتاب الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ (يونس: 57-58)
وأشار الباحث أيضا الي ان الله تعالى حذَّر عباده المؤمنين من مغبَّة التَّمادي في هجر القرآن، فتكون نتيجته قسوةَ القلوب، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
وقد اتفق الباحث هنا مع ما قاله المفكر العربي الأستاذ علي محمد الشرفاء الحمادي في مقالة (العودة للقرآن في رمضان تكون “بالتدبر واحترام العقل وتنمية الفكر والارتقاء به وتنقيته من الخرافات والأوهام”)
والذي اكد فيه ان الله امرنا في محكم كتابه بالتدبر واحترام العقل وتنمية الفكر والارتقاء به وتنقيته من الخرافات والأوهام واحكام المنطق ومرجعية القرآن وما فيها من دلالات تؤكد للناس أن يحرروا عقولهم ولا يرتهنوا لمقولات تواترت عبر القرون ولا يقدسوا أناسا مهما بلغ علمهم فإنهم بشر يخطئون ويصيبون وما صاغته افهامهم عبر القرون الماضية حسب قدراتهم الفكرية وحسبما املت عليهم ظروفهم الاجتماعيه، وقد وضع الله سبحانه وتعالى قاعدة عظيمة تأمرنا جميعا بأن نستنبط حلولا تتوافق مع كل عصر نابعة من القرآن الكريم، تأسيسا لقوله تعالى في سورة البقرة (134) ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ذلك قول فصل وامر للناس بأن تجتهد كل امة في كل عصر بما تحقق مصالحها الحياتيه
ويؤكد الباحث محمود احمد الدسري في بحثة ان الأصل أنَّ قلوب المؤمنين وجلودَهم تخشع وتخضع وترقُّ وتسكن وتطمئنُّ عند ذكر الله تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23].
فمَنْ أراد أن يخشع قلبه، وينشرح صدره، فلا غنى له عن التَّفكُّر والتَّمعُّن في الآيات الكريمات، ولا يكن همُّه – إذا افتتح السُّورة – أن يقول في نفسه: متى أختمها. قال الآجرِّي رحمه الله: «فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قَبُحَ فيه، فما حذَّره مولاه حَذَره، وما خوَّفه به من عقابه خافه، وما رغَّب فيه مولاه رَغِبَ فيه ورجاه.
فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصِّفة فقد تلاه حقَّ تلاوته، ورعاه حقَّ رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحِرْزًا، ومن كان هذا وَصْفَه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة»
و«كان القرآن له شفاءً، فاستغنى بلا مالٍ، وعَزَّ بلا عشيرةٍ، وأنِسَ بما يستوحش منه غيره، وكان همُّه عند التِّلاوة للسُّورة ـ إذا افتتحها: متى أتَّعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السُّورة؟ وإنَّما مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.9
وقراءة القرآن بالتَّفكُّر هي أصل صلاح القلب واستقامته، ولا شيء أنفع للعبد في معاشه وأقرب إلى نجاته في معاده من تدبُّر القرآن العظيم، فلو عَلِمَ الناسُ ما في قراءة القرآن بالتَّدبُّر، لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها. فإذا قرأه بتفكُّرٍ، حتَّى إذا مرَّ بآيةٍ وهو محتاج إليها في شفاءِ قلبه، كَرَّرَها ولو مائةَ مرَّة ولو ليلة، فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغيرِ تدبُّرٍ وتفهُّم، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصولِ الإيمان وذَوْقِ حَلاوةِ القرآن، فقراءةُ القرآنِ بالتَّفكُّرِ هي أصلُ صَلاحِ القلب
وأكَّد الباحث ذلك في موضع آخر، فقال: «فليس أنفعُ للعبد في معاشه ومعاده، وأقربُ إلى نجاته من تدبُّرِ القرآن، وإطالةِ التَّأمُّل، وجَمْعِ منه الفِكْر على معاني آياته؛ فإنَّها تُطْلِعُ العبدَ على معالم الخير والشَّر، وتُثَبِّتُ قواعدَ الإيمانِ في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطِّد أركانه، وتعطيه قوَّةً في قلبه، وحياةً، وسعةً، وانشراحًا، وبهجةً وسرورًا، فيصير في شأنٍ والنَّاسُ في شأنٍ آخر، وفي تأمُّلِ القرآن وتدبُّرِه أضعافُ أضعاف ما ذكرنا من الحِكَم والفوائد