نستعرض اليوم كتاب ” الحياة في المنهاج الإلهي ” وهو ما يتفق مع ما تناوله المفكر العربي علي محمد الشرفاء في مقالاته حول المنهاج الإلهي، خاصة أن الشرفاء يرى أن الله سبحانه وضع للناس قاعدة من القيم الأخلاقية التي يسيرون عليها في الحياة الدنيا تؤسس للعلاقات القويمة والعادلة بين الناس مبنية على الرحمة والعدل والحرية في الاعتقاد والاحسان بين الناس جميعا ونشر السلام والتعاون على البر والتقوى بالكلمة الطيبة ليعيش الناس حياة آمنة مطمئنة في ظل التسابق في الخيرات ووأد الفتن والتمسك بشرعة الله ومنهاجه الذي يحصن المسلم من ارتكاب المعاصي والوقوع في براثن الشيطان ليرتكب الفحشاء والمنكر والبغي والطغيان ماحرمه الله على المؤمنين الذين عاهدوا الله على التفاني في طاعته ولم يتبعوا روايات الزور التي اضلت المسلمين وجعلت رسول الله يشتكي الى ربه من هجرهم لكتابه المسن في قول الله سبحانه مبينا للناس شكوى الرسول عليه السلام قوله سبحانه: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30)،
وهو الامر الذي يؤكده كتاب ” الحياة في المنهج الإلهي” للكاتب محمد بدوي حين يقول “الحياة المحمية بالأمانة من عقوق الآدمي في أنماط السلوك خاصِّه وعامِّه – هي الحياة السوية، التي تَسَنَّمت فيها الروح مكانها، من قيادة الجسم، وتوجيه أنشطته، وترشيد انفعالاته، وترقية شهواته، وهي حياة لا تخنق الاستعدادَ الشهوي ولا تئده، كما يتوهم الأغنياء، فلولا ما ناطه به الحكيمُ من وظيفة تعمير الأرض، لَمَا خلَقَه، ولكنها تحفظه من العبث به من الشيطان، الذي لا همَّ له إلا احتواء البشر في حصيلة كيده المستمر. فالدنيا منذ شاء الله أن يستخلف آدم مستعمرةٌ له ولذريته، وهي حافلة بكل مشتهى، وللإنسان قابلية فطرية مُودَعة فيه بالحكمة؛ لتلتقي بهذه المشتهيات التي لا حصر لها، والحواس التي هي منافذ الإدراك لهذه المشتهيات، تجهيز إلهي يحكم الصلة بين الإنسان والوجود الذي هو فلذة منه، ولكنه الخليفة فيه.”
ويضيف الكاتب قائلا “لولا اقتضاءُ الحكمة العلية إحلالَ الشيطان هذا الكونَ مع الإنسان، ما احتاج الإنسان إلى وحي السماء يوجهه؛ إذ كانت الفطرة التي خلق الله الناس عليها دينًا كافيًا للإشباع في حدود السلامة من الجشع، وحب الفرد أن يستقطب المنافع كلها لذاته ولو شقي مَن حوله، ولكنه لو كان الأمر هكذا، لما تميز الفاضل من المفضول، ولما وجد البَرُّ والفاجر، والمؤمن والكافر، ووجود ذلك كل مفروغ من القول فيه؛ لأن حكمة الله اقتضته اقتضاء أزليًّا أبديًّا، يستوجبه كمال أسمائه الحسنى وجلاله.
ويوضح الكتاب ان ميدان الصراع يتجلى ، حين يصبح الجهاد للترقي واجبًا للانتصار على عدو البشر، وللسلامة من مصير أقسم عليه متحديًا؛ إذ قال:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، وليكون المجاهد المترقي غالبًا، لعله داخل في استثنائه: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83]، وإذا تبيَّن بهذا لزوم الجهاد للترقي إلى مستوى النصر على الشيطان، الذي دسيسته في صميم تركيب الإنسان، وهي النفس الموصولة الحس بالشهوات على وجه مستمر – فقد اقتضت حكمة الله أن يسند الصفوة المختارة المستثناة بمنهج هذا الترقي؛ لأن العقل – وإن كان عقالاً للنفس – يعجز أحيانًا كثيرة أمام الحكم بالتحسين والتقبيح؛ للالتباس بمغالطة الشيطان ووسواسه، وخديعته العقلَ بالعلل والبراهين المفتراة، فليُحقَّ الحق، ويُبطَل الباطل، وليتأكد العدل، وتُقام الحُجة، أنزل الله الكتب منهجًا حكيمًا على نجباء الحياة؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ولو كان العقل وحده كافيًا للحماية والانتصار، لكان الحجة البالغة، وكانت رسالة الوحي نافلة.
ويوضح الكاتب ان هناك حقيقة مؤكدة وهي أن النفس البشرية نفس شاعرة، وإن لم تَقُل شِعرًا؛ لأن عالمها الداخلي عالم إحساس وعاطفة ووجدان، وعالمها الخارجي عالم إغراء وإثارة وفتنة، وهذا مناط انطلاق الخيال الذي يزلزل سلطان العقل، وينميه مخدرًا بالسحر والنشوة، ويصور له أن الله ما خَلَق هذين العالمين هكذا إلاَّ للاغتنام قدر المستطاع {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14]، وأشباهها من كل مصب لعاطفة، وهاتف بغريزة، وهذا التلبيس حق في ظاهره، باطل مخزٍ في باطنه، والذي يكشف الحق، ويزهق الباطل لعين العقل حتى يحذر – هو منهج الله، الذي لا يَحرِم قوانا الموهوبة من المتعة المسعدة بكل هذه المثيرات، ولكن في إطار من الطُّهر والنزاهة، وبأحكام تعصم من انفلات المؤمن المستجيب إلى حبالة الصائد المحتال، فالرسالات – والإسلام خاتمها، والمهيمن بالتمام والكمال عليها – منهج إلهي منير صاعد، يقيد الضار والقبيح بحكم ربه عليه، وإن حسَّنه العقلُ مخدوعًا بالعلل الكواذب، ويقيد النافع والحسن بحكم ربه عليه، وإن قبَّحه العقل مخدوعًا بالعلل الكواذب.
ويقول الكاتب ان للناظر في المنهج الإلهي أن يجد – مهما قلَّت ثقافتُه – قاموسَ الحسن وقاموس القبح، الذي يفصل به بينهما؛ ليهتدي فيرتقي؛ فالحلال والطيب، والبر والمعروف، والأزكى والأطهر، والأحسن والأقوم، وما إلى ذلك – متَّصف بها الحسن عند الله. وكل خير وفضيلة – كما قرر الحكماء – وسط بين رذيلتين؛ هما الإفراط والتفريط، والمنهجُ الإلهي هو دائمًا بينهما في استنان طريق الحياة، فالاتصال الجنسي – كما لدى البهائم وشبهها من البشر – حسن في ذاته؛ لأنه استجابة طبيعية لغرائز تريد الإشباع، ولكنه قبيح على إطلاقه؛ لما يترتب عليه من مفاسد، نراها في كل جيل أو وطن فسق عن منهج الله، فضاع النَّسب، وانحلَّت الأسرة، وفقد السكن، وتدنَّى الإنسان، فكان دون الحيوان الذي يعرف حظيرته وأبناءه، فيحضنهم ويرعاهم؛ ولهذا حصنه المنهج الإلهي بالضمان الكافي لحماية الحياة.
ويوضح الكتاب ان حكمُ الإنسان بالإعدام على هذه الغريزة فيه قبيحٌ في منهج الله؛ لأنه افتراء على وصل الحياة باتِّخاذ السبب المشروع، وحكم على الجنس بالانقطاع عند هذه الغاية، وصراع في داخل النفس يمرض المرء بالقلق والتوتر واضطراب الإنتاج.
أيضا تناول الكتاب مفهوم القصاص في المنهاج الإلهي وهو قتل للنفس حيث يقول الكاتب انه أي القصاص هو قبيح في ذاته؛ لأنه إزهاق للروح، وهدم لبناء الله الذي لا يقدر على مثله سواه، ولكنه حسن في منهج الله؛ لأنه يعصم البناءَ الأكبر من الهدم، لاعتقاله شهوة القاتل أو نزوته في ظلال غريزة حب البقاء، فيكفُّ – ليعيش – عن إجابة النزوة؛ ولهذا جعله المنهج الإلهي مصدرًا تَصدر عنه الحياةُ، بأن جعله ظرفًا لها في قول الحق – جل علاه -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، كما جعل الحياة نكرةً لعظمتها؛ لأنها حياة الملايين، ومنها حياة القاتل الذي كفه النداء، كما خاطب به أولي الألباب؛ حملاً لها أن تفكر، وجعله – تعالى – علة للتقوى من الاعتداء الآثم، والانطلاق المبير، الذي ضرج الأرض بدمائها اليوم، دليل خسران البشر إذ تركوا منهج الله، ولما كان هذا هو وجهَ الحسن في القصاص، جعل الله الدماء قصاصًا، والجروح قصاصًا، والحرمات قصاصًا؛ ليرقى كل مؤمن فوق أهوائه، ويأمن البناء الأكبر شر بوائقه بثمن كبير، هو أمنه في الدنيا بالتلاحم مع هذا البناء، وأمنه في الآخرة بالاستجابة لصوت المنهج الذي أهاب به فلبَّاه، كما أن الإسراف في القتل قصاصًا في منهج الله – قبيح؛ لأنه طاعة للهوى، وانخداع بالظنة، وإفلات بالسلطان من قيود المنهج، الذي استحب درء الحدود بالشبهات، وفرض التحري لعدالة الشاهد، وجعل للشهادة نصابًا من الشهداء، وللإقرار على النفس نصابًا من الترديد؛ تكريمًا لدم الآدمي، وتعريفًا له بقيمة ذاته؛ ليعرف أين هو على دروب الحياة المتعددة المسالك
فبحسب الكتاب كلُّ ما في المنهج الإلهي الحكيم من أمر ونهي، فما أحلَّ الله غير الطيبات، وما حرَّم غير الخبائث. والعبادات بمبادئها وصفاتها: ما هي إلا تدريب مستمر ناجح في التسامي بالنفس إلى أعلى ما يكفل للدنيا نسقَها المستقيم؛ فالصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر؛ قال – تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، هكذا بتنزيل الصلاة منزلةَ الناهي العاقل المختار؛ لإكبار شأنها في الترقي بالذات عن مشتهيات النفس الفاحشة، التي ينكرها العقل المدعو بسلامة الفطرة، وبالسلامة من تزييف الشيطان.
والصوم تسامٍ بالنفس عن اكتساب ما جُبلت عليه، وما هو ضروري لقيام الحياة، فترة غير قصيرة من الزمن؛ ليدربها على الانضباط، وصيام الجوارح كلها عن التسفل، بالهجر
والحج تسامٍ بالنفس عن حب المال وملازمة الأهل والوطن، واستمرار الحياة على نسق الكسب، والراحة من عناء السفر ووعثاء الطريق، وهو مع ذلك ترقٍّ بالسلوك إلى التهذيب الأكمل، في مضايقَ مِن شأنها أن تفلت الجارحة من ضبط العقل، فلا تمام له إلا بتمام السيطرة على مملكة النفس، التي يحشد حولها قواه؛ {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]، «مَن حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» (رواه البخاري وأحمد عن أبي هريرة). والزكاة – والنفس مجبولة على الشح – استعلاء بهذه النفس على حبها المُرْدِي بتهديد الشيطان؛ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268]، واستجابة في المقابل لدعوة المنهج إلى الفلاح؛ {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16]، حيث يبذل المتسامي مِن خير ماله، وطيب كسبِه، مستعصيًا على نداء عدوه، لا يُبطِل ما أنفق بالمنِّ والأذى، ولا يتيمم الخبيث ينفق منه، وليس بآخذه ألا أن يُغْمِض فيه؛ بل يؤثر غيره ولو كان به خصاصة؛ لأنه أَمِن حين ارتقت نفسه فوق دنياه، بأن الذخر أجمعه في ابتغاء وجه الله؛ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].