نستعرض اليوم كتاب ” أثر الثقافة الإسلامية في بناء النهضة القادمة” للكاتب مصطفى صقر من دولة سوريا، حيث بدأ كتابه بقوله “من المحفزات الحقيقية للنهوض وجود منظومة من الأفكار تدفع الإنسان نحو إعادة ترتيب العلاقات وفق عالم الأشخاص وقدرة إيجابية في توظيف عالم الأشياء بما يحقق الرفاهية للمجتمع، ويضمن ضبط دوافعها الفردية لتحقيق مصلحة الجميع، وهذه المنظومة لا نجدها متجلية –كما يصفها ابن نبي– أكثر ما يمكن إلا في “الفكرة” أو “الثقافة الإسلامية” التي غرسها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، فساحوا في الأرض معلنين قيام حضارة جديدة تحقق للإنسان مفهوم السعادة في الدنيا والآخرة.
ويقول الكاتب انه حينما نتحدث عن الثقافة الإسلامية بما تحويه من (المعارف والقيم والمعتقدات الإسلامية الحاكمة للسلوك) كما يعرفها السويدان في كتابه “صناعة الثقافة”، فإننا سنتساءل: كيف استطاعت هذه الثقافة أن تنطلق بـ”الإنسان المسلم” حينها نحو بناء حضارة ملأت الأرض نورًا ورحمةً وعدلًا، كما مُلئت قبل ذلك ظلمة وقسوة وظلاما؟ وهل بإمكانها أن تلعب هذه الدور مرة أخرى في استعادة دور “الإنسان المسلم” بفاعلية في هذا العصر؟
ويضيف الكتاب انه من يتتبع النصوص القرآنية يتضح له غاية المسلم ورسالته، منها ما قاله تعالى في سورة آل عمران {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، ثم أوضح بما كانت هذه الخيرية {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، وبذلك غرس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلوب أصحابه غاية وجودهم ورسالتهم للعالم أجمع، وبها نطق أحد أصحابه لرستم حين واجهه في قصره: (لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
ويشير الكاتب الي ان رحلة الثقافة الإسلامية بدأت منذ تلك الهمسة القدسية لكلمة “اقرأ” في غار حراء، لتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والبشرية من بعده إلى حقائق مهمة لن تصح إلا بالقراءة الصحيحة، وبلورة التصور الإسلامي في إعادة تموضع العلاقة بين الله والإنسان والكون، وصدق الله حين قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 – 5].
ويري الكاتب ان التدوين كان عاملا لاثراء تلك الثقافة فيقول “فقد أقسم الله بـ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، أي الحرف وأداة الكتابة ونتاجها؛ فقد قال سيد قطب رحمه الله في تفسير ذلك: “وهذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون، منوهًا بقيمة الكتابة ومعظّما لشأنها؛ لتنقل هذه العقيدة ومنهجها في الحياة إلى أرجاء الأرض، ولتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة”.
حيث يشير الكاتب في كتابة الي ان الناظر الي قصة حلق البشري وخلق ادم يجد فيها أن الله حين أعلن للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] أدرك الملائكة أنهم أمام مخلوق استثنائي سيتحمل مسؤولية كبيرة، وسيمتلك إرادة حرة قد تتصارع وتوصله إلى أن {يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، إلا أن القرآن أشار إلى أن حل هذا الأمر سيكمن في: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] وهي إشارة نحو قدرة آدم –وبنيه من بعده– على التعلم من أخطائه واختلافاته مع أقرانه ليبني عليها حضارته، عندها أدركت الملائكة قوله تعالى لهم: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33].
ويوضح الكاتب في الفصل الثالث من كتابه ان الإسلام وضع لنا ثقافة في الاختلاف فتحت هذا المفهوم أقر القرآن الكريم وجود الاختلاف بين الناس، بل أشار إلى أنه قد يكون سببًا لخلقهم على هذه الشاكلة ليستفيد من ذلك، فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119] فلو كان الناس كلهم متشابهين لما أضاف أحد لهذه الدنيا أية إضافة، بل وأشار القرآن أيضًا إلى أن هذا الاختلاف سر من أسرار الفتنة والبلاء المطلوب الصبر عليه، فقال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، كما وضع قاعدة عامة في التعامل مع الآخر فقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وأكد أيضا على حسن التعامل مع هذا الآخر –شريطة ألا يحارب الإسلام– فقال: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]، ونهى عن موادة الأعداء والمقاتلين: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة: 9]، وأكد أيضًا على أن ديناميكية الحياة قائمة على التدافع بين الحضارات في قوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 125] وكل هذا توصيف وتأطير لقواعد الاشتباك مع الآخر؛ فردًا أو جماعة أو دولة.
كما أوضح الكاتب ان الإسلام يقبل كافة الثقافات التي تختلف معه او تلك التي لها خصوصية ويقصد بـ”الخصوصية الحضارية” ما تختص به حضارة عن أخرى كالأفكار والمعتقدات والمبادئ، أو العلاقات في عالم الأشخاص، أو التفاعل مع عالم الأشياء بناء على تلك المعتقدات أو العلاقات؛ فقد أقر القرآن الكريم الخصوصية الحضارية لكل الناس، وجعل مقدار التفاضل هو التقوى -بما تعكسه من أخلاق وسلوك معنوي ونتاج مادي نافع– وجعل “التعارف” وسيلة التواصل لا الغزو أو الاحتلال، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
كما أشار الكاتب في كتابة الي كيف كان للثقافة الإسلامية دورا في وضع اشكال وطرق مواجهة الصراعات المحلية والإقليمية والدولية حيث ناقش القرآن الكريم الصراع العسكري بين القوتين العظيمتين في تلك الفترة (فارس والروم) في سورة الروم، وأظهر أن هذا الصراع مقدمة لنصر الله للمؤمنين بقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]
واختتم الكاتب كتابه بتحذير القرآن الكريم من تحويل العلم والثقافة والكتاب من قوة تعود بالمنفعة على البشرية إلى سلطة جبرية تسعى إلى سحق الحريات العامة؛ في المعتقدات أيضًا قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، كما استعرض القرآن الكريم تجارب الأمم التي عاشت تحت وطأة مثل هذه العبودية وجحيمها من أبنائها المستبدين أو من غيرها المحتلين مؤكدًا أن “أول دواعي الهزيمة هو الجهل بحقائق الأمور”، ولنا في فرعون الذي: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]، أو السامري الذي ادعى العلم فأضل من حوله: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه: 96]، أمثلة سوء، بينما لنا في ذي القرنين الذي تكفل بإنقاذ ما بين السدين بعلمه الذي حباه الله كل خير، فقد قال: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 95 – 97].