ابتُليت الأمة ببعض فقهاء السوء، الذين خدعوا الناس باجتهاداتهم، واستمدوا دعائمها من روايات تدعم استنتاجاتهم، لصرف الناس عن الخطاب الإلهي للناس. وقد عمل هؤلاء بدعوتهم إلى حصر الأركان في العبادات، وعملوا على إلهاء الناس وصرفهم عن الغايات والأهداف العليا للإسلام، واستبدالها بالوسائل، لأن العبادات سهلة التطبيق ولا تحتاج إلى جهد في مجاهدة النفس، وتطويعها وكبح جماحها في تدريبها على أخلاق القرآن وفضائله النبيلة التي أمر الله المسلمين بأن يلتزموا بها في معاملاتهم وسلوكياتهم.
وليس في كل الأحوال تكون النوايا حسنة والمقاصد طيبة، بل إننا نستشعر أن حملات استهداف الأمة فكريًا وعقائديًا كانت الروايات والإسرائيليات تقف خلف هذا الهدف للحيلولة دون قيام الأمة ونهوضها، لينشغل المسلمون في دوامة المناظرات والفلسفات المستوردة من أوروبا وآسيا، وفرقّت المسلمين شيعًا وأحزابًا وطوائف، يقاتل بعضهم بعضًا استنادًا إلى الروايات التي تناقض قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(الأنبياء: 107).
حين نقرأ في القرآن الكريم، نجد الآيات التي تظهر هذه الرحمة، يقول الله سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9)، و(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)(ص: 29). لكننا لا نرى هذه الرحمة عند بعض المسلمين الذين يتلون القرآن ولا يتدبرون ما فيه من حكم ونصائح، أو يستنبطون منه التشريعات التي تنظم الحياة ومتطلباتها.
إن الالتباس الذي نراه في فهم المسلمين لأركان الإسلام الخمسة، كان بسبب حشد الروايات الملفقة وفتاوى علماء السلطان على مرّ العصور، ولذا لا بد من العودة لمصدر الإسلام الأول قبل حدوث هذا التبديل الكبير والتقصير، عندما كان رسول الله – عليه الصلاة والسلام – يعلم أصحابه الحكمة وما ترمي إليه مقاصد آيات القرآن الكريم، ويرشدهم لاتباع المنهج الحق لدين الإسلام، لنقف على أركان الإسلام الكاملة التي نادت بها دعوات الأنبياء جميعًا في مختلف العصور، وهي التي تؤكد أن الله قد خلق الإنسان على هيئة من العلو والرفعة والكرامة، ليكون خليفة في الأرض واستثمار ما فيها من ثروات لتحقيق الحياة الكريمة.
تأتي الرسالات لتؤكد أن الله قد خلق الإنسان على هيئة من العلو والرفعة، وأكدت بأنه لا تفاوت في الخلق. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)(الإسراء: 70) ومع تكريم الله للإنسان، سخر له كل الثروات التي على الأرض وما في باطنها، فهو مخلوق لإعمار الأرض بالعلم والمعرفة التي علمه الله إياها. كل ذلك عند خلق (آدم) كان لتوظيف نعم الله لما ينفع الناس ويحقق لهم متطلبات الحياة الكريمة، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13).
كل تلك النعم تتطلب من الإنسان البحث والتفكير، والدراسة العلمية لمعرفة عظمة الخالق في قوانين الكون.
ما يصل الإنسان إليه من معرفة في توظيف نتائج أبحاثه العلمية في استغلال الثروات الطبيعية لصالح الإنسان، كما أمر الله في الآية المذكورة أعلاه، ولما ينفعهم في حياتهم الدنيا من مأكل ومشرب ووسائل الراحة وغيرها من متطلبات الحياة، والشكر لله على تلك النعم بالمحافظة عليها.
النعم جميعًا، إضافة إلى ما يجب اتباعه من الخلق الكريم والتمسك بالفضيلة، أساسها الرحمة والعدل والمحبة والتعاون والإحسان والسلام. فهل يمكن أن يُحسن بنو آدم إعمار الأرض واستثمار ما فيها من ثروات وهم في نزاع وقتال وتظالم وحسد وكبرياء وصراع دائم؟
ولذلك أتى الأمر الإلهي بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وأكرم الناس عند الله المتقون الذين يتقبل الله منهم أعمالهم وعباداتهم، قال تعالى:(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، الذين يخافون الله ويخشون عقابه، والذين اتبعوا الشيطان وتخلفوا عن أوامر الله، حيث يدفعهم الشيطان للظلم واقتراف الإثم والجرائم وأكل أموال الناس بالباطل، فجزاؤهم عند الله يوم القيامة عذاب عظيم، بينما يأمر الله الناس بالإحسان والتعاون والرحمة والعدل والسلام، إذا التزموا بها تتحقق لهم حياة هنيئة وسلام دائم.
لذا يمكننا القول في جزم قاطع، إنّ خير المسلم الذي يخشى عقاب الله ويحسن معاملة الناس ويكف أذاه عنهم هو أكرم عند الله من فقيه مستبد أو كاذب أو ظالم أو داعية إسلامي كاذب، حيث يتحقق لهم حياة هنيئة وسلام دائم.
ولذلك سيتفاجأ المسلمون الظالمون بهذه الآيات في الآخرة وسوف يقولون عند يوم الحساب: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)(السجدة: 12). ثم عندما يأمرهم الله سبحانه بقوله: **اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا** (الإسراء: 14)، لن يجدوا في صحيفتهم أعمالاً صالحة، فيقع عليهم العقاب.
تأمل القول في الآية المذكورة أعلاه: (نَعْمَلُ صَالِحًا) (نعمل عملاً صالحًا)، ولم يُقل (نعلم)، فالمصيبة المهلكة ليست في العلم، وإنما الحمل، أي ليس في الجهل البسيط، وإنما العدوان والظلم والكذب والغش وإضاعة الأمانة، إنما في العمل الصالح بالرحمة والعدل والإحسان للإنسان، والتمسك بالسلوك القويم الذي يدعو إليه القرآن الكريم، تأكيدًا لقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 33).
لذا فإنّ الاعتقاد بأنّ أركان الإسلام خمسة إنما هي مجموعة من العبادات البدنية المختزلة، والتي على رأسها الأركان المختزلة دون الوصول إلى أعلى وأسمى الغايات. فالسلوك الإنساني من أقواله وأفعاله هو أساس الدعوة الإنسانية السامية وهي لا تختلف ولا تتجزأ عن أي أمر، ولا تنفصل عن الغايات العليا للرحمة والعدل والرفعة، حيث أخلاق ومقاصد الدين الإسلامي هي قمة رسالات الأنبياء.
فالإسلام هو مجموعة من الأخلاق والمبادئ الرفيعة الواردة في القرآن الكريم، وتوحدت في أوامر الله ونواهيه للعمل لتحقيق السعادة والرفعة للإنسان.
آيات الله جاءت لنعمة الإنسان في حياته الدنيا؛ ليعيش آمنًا في مختلف المجتمعات البشرية، تُرفرف عليهم بركات الله ورحمته باتباع الشرع الإلهي. قال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151-153).
لذلك، أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج هي وسائل تقود الإنسان لبلوغ التشريعات الإلهية والقيم والمبادئ التي ذكرها الله تعالى في الآيات الكريمة أعلاه، التي يجب على الإنسان أن يعمل بها قولاً وعملاً، فبهذا يتحقق السعادة في الدنيا وسعادة في الآخرة.