نستعرض لكم اليوم كتاب تهويد المعرفة للكتاب السوري الراحل ممدوح عدوان والذي يحوي اكبر قدر من المعلومات، لكل مهتم بالصراع العربي الإسرائيلي، في اقل قدر من الصفحات، محافظاً على أسلوبه السلس ونكهته المألوفة.
ويؤكد الكتاب ان الانحياز الغربي عموما، والأميركي خصوصاً، إلى الجانب الإسرائيلي، ليس نتيجة التقاء مصالح فقط، إنما هو نتيجة حتمية أيضاً لتهويد المعرفة التي دأب اليهود في العمل عليها طوال ثلاثة قرون مضت!، فتمكنوا من تكوين عقل غربي على مقاسهم ومقاس رؤيتهم ومطامعهم.
ويتقفى الكاتب في البداية شخصية اليهودي في الأدب الغربي، فيرى كيف كانت تصور رمزاً للجشع والدناءة والانحطاط الأخلاقي، كما جاءت عند تشوسر (1340- 1400) صاحب حكايات كانتربري في أول نص أدبي إنجليزي مقروء. وفيها نجد قصة الطفل المسيحي الذي يترنم بأغنية عن السيدة العذراء، ثم يمر في حارة اليهود، فيقومون بذبحه. والكاتب تشوسر نفسه يحمّل اليهود دم المسيح في حكاية الفاخر.
ويستمر عدوان في البحث عن الصور المنحطة لليهودي في الأدب الغربي، ضارباً لنا أمثلة بشايلوك في تاجر البندقية عند شكسبير إذ يصل الانحطاط الأخلاقي بشايلوك حد مطالبة خصمه باللحم الآدمي مقابل دين له، أو كشخصية بارباس عند مارلو الإيطالي الذي يرفض إقراض دولته لمواجهة الغزو التركي.
ولم تكن هذه النظرة السلبية لليهود، وقفاً على الأدباء وحدهم، بل استحوذت على جهابذة الفكر الغربي، كفولتير الذي يتحدث عنهم بامتهان، كأن يسميهم: «سادتنا وأعداؤنا.. الذين نحتقرهم.. الشعب الأكثر بغضاً في العالم
وهو ما يتوافق مع رؤية المفكر علي الشرفاء الحمادي حين ذكر وطالب من الجميع في كتابة ومضات علي الطريق ” ان تستيقظ العقول مؤكدا أن بني إسرائيل حاولوا بشتى الوسائل القضاء على رسالة الإسلام منذ بداية بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أنهم حرضوا كفار قريش على اغتياله ولما فشلوا شنت عليه قبائل اليهود -بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع – حروبًا عِدة لإعاقة تبليغ رسالة الإسلام للناس. وبفضل الله نُصر رسوله وهُزموا شرّ هزيمة في كل معاركهم، ولذا اتجهوا للشائعات وافتراء الأكاذيب على رسول الله، وخلقوا آلاف الروايات نسبوها للصحابة منسوبة للرسول، واستطاعوا أن يقنعوا بها عددًا كبيرًا من دعاة المسلمين، وبالغوا في تضخيم مكانتهم في العالم العربي والإسلامي بكل وسائل الدعاية من طباعة عشرات الآلاف من الكتب والمجلدات لإعطاء مصداقية وتقديس لتلك الروايات، فاندفع المسلمون من كل مكان يمجدونهم ويقدسون آراءهم حتى أصبح أولئك العلماء مراجع دينية غير قابلة للنقد أو لتصحيح بعض المفاهيم التي تنال من الرسول عليه الصلاة والسلام ومن القرآن الكريم واعتبروها غير قابلة للمناقشة أو المراجعة.
ويكمل الشرفاء قائلا هكذا استطاع الإسرائيليون أن يؤسسوا على الروايات دينًا جديدًا يدعمهم ويساندهم مجموعة علماء المذاهب المختلفة والأسانيد المنسوبة لأصحاب رسول الله، ليتحقق للروايات القدسية والمصداقية، وبذلك استطاعوا أن يضربوا طوقًا على العقول بمنعها من التدبر والتفكر كما أمر الله سبحانه مستهدفين صرف الناس عن القرآن وتعطيل فرائضه، لتستمر المؤامرة في وأد العقل العربي ليظل مرتهنًا بأقوال السابقين وتبقى العقول مقيّدة بتلك الأغلال التي ابتدعوها.
وهو ما يتبين للمؤلف في كتاب “تهويد المعرفة” أن ذلك الهجوم على اليهود خفت حدته بمرور الزمن مع صدور كتاب «السلام الديني» الذي يطالب بالسماح بعودة اليهود إلى إنجلترا بعد أن كانوا قد طردوا منها عام 1290.
ومع قدوم القرن الثامن عشر تراجعت صورة اليهودي الكريه من الأدب الغربي، لتحل محلها صورة اليهودي الإنساني (الجار والمعين) حسب تعبير عدوان الذي رأى أن أول صورة لليهودي الايجابي ظهرت في رواية (هارنغتون) لماريا ادجورث(1767- 1849)، إذ تظهر شخصية مونتينيرو اليهودي الذي ينقذ هارلنغتون الإنجليزي من أزمته المالية، على عكس بارباس عند مارلو الإيطالي.
ثم تتالت صورة اليهودي الايجابي إلى أن أصبحت تقليداً وعرفاً لدى الأدباء الغربيين، فمن بنيامين دزرائيلي(1804 ـ 1881) الذي قال من جملة ما قال: «إن اهتمامي بسعادة شعبي ـ اليهودي طبعاً ـ لمن الحدة بحيث يمنعني من أن أكون أعمى للحظة واحدة تجاه العواصف المتلاحقة على أفق المجتمع» إلى جورج اليوت (1819- 1880)
التي تقول في روايتها «الغجرية الأسبانية»: «إسرائيل بين الأمم بمثابة القلب من الجسد، هكذا يكتب شاعرنا يهوذا»، والكاتبة ذاتها كتبت عام 1876 تقول: «إننا، نحن الذين نشأنا على المسيحية، مدينون لليهود بشكل خاص.. إنهم (أي المسيحيين) لا يعرفون ان المسيح كان يهودياً»..
ويفسر الكاتب دوافع أولئك الكتاب ـ ربما باستثناء دزرائيلي اليهودي الأصل والذي اعتنق المسيحية لأسباب سياسية ـ للاهتمام باليهود على نحو ايجابي على عكس من سبقهم كون قضية اليهود صارت جزءاً من قضايا التحرر في الفكر الغربي، خصوصاً سبق لهم أن طردوا من إنجلترا عام 1290، مضافاً إلى ذلك أن حركة (هاسكالا/التنوير) اليهودية كانت قد بدأت نشاطها في القرن الثامن عشر،
وهي مواكبة لحركة التنوير الأوروبية، وتدعو هاسكالا اليهود إلى تبني ثقافات البلدان التي يعيشون فيها، وهجر الييدش (اللغة اليهودية الأوروبية) والعودة إلى التمسك باللغة العبرية، إضافة إلى استخدام اللغات الأوروبية للبلدان التي يقطنونها. واهم ما في هذه الحركة السعي لتحقيق المساواة المدنية والمناداة برابطة دنيوية بين اليهود، وحس قومي بديل عن الرابطة الدينية.
وإذا سبق أن رأينا مفكراً كفولتير يتحدث عن اليهود بامتهان، فإن المؤلف يذكر لنا مفكراً آخر لا يقل أهمية عن فولتير، يعترف بفضل اليهود ألا وهو هيغل في كتابه «فلسفة التاريخ» الذي ينقل صورة الشعوب الشرقية كما تنعكس في مرايا النص الديني العبري…
ينتقل عدوان بعد ذلك إلى تبيان كيفية تهويد المعرفة في أميركا، فيتطرق في البداية إلى الحركة البيوريتانية ذات الفكر الأقرب إلى اليهودية، والحركة مولودة في القرن السابع عشر داخل كنيسة إنجلترا، وكيف تصطدم تلك الحركة بالسلطات الإنجليزية، مما يؤدي إلى هجرة مكثفة للبيوريتان الإنجليز إلى أميركا، مؤسسين فيها (نيو انغلاند).
وهناك تتماهى أفكارهم مع أفكار المستعمرين الجدد وتطلعاتهم، مع الأخذ بالحسبان أن جل المستعمرين الجدد ذوو فكر متهوّد وأبناء ثقافة يهودية.. وتتقاطع نظرة كل من البيوريتان والمستعمرين الجدد حول السكان الأصليين للبلاد، على أنهم نوع من الوحوش (الحسيين) الذين لا يعبدون الإله ذاته، ويمارسون طقوساً غريبة، ما يعني انه يوجد شعب مختار لله!.
ومن خلال إلقاء نظرة سريعة على بعض ما يذكره عدوان عن بعض التاريخ الأميركي سيجد القارئ نفسه أمام حقائق مذهلة ومؤلمة في آن، إذ من خلالها سيستدل على مدى العمق الزمني لتهويد أميركا، فكما يذكر أن قوانين كل من مستعمرات بليموث(1636)،
وماسا شوستس(1647)، وكونيكتيكوت (1650) مستمدة من شريعة موسى، بينما نصف قوانين نيوهاتن مقتبسة حرفياً من التوراة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى ضرورة تعلم وتعليم اللغة العبرية، التي لم يكن تعلمها ترفاً أو زخرفاً للواعظ أو الكاهن أو السياسي في المستعمرات الجديدة،
بحسب ما يورد المؤلف عن مقالة لمنير العكش في مجلة «جسور» التي يصدرها الأخير في أميركا، ويتابع الكاتب: بل سيكون أساس البنيان الثقافي لكل متعلم أميركي متنور، مضيفاً إن الكتاب الأول الذي طبع في أميركا هو «مزامير داود» لا الإنجيل ولا كتاب في النحو الإنجليزي،
في حين أن كتاب النحو العبري كان قد طبع في هارفارد سنة 1735. وعندما تأسست جامعتها كانت اللغة الرسمية فيها هي اللغة العبرية. ربما من هنا كان ابرهام لنكولن يحذر الشعب الأميركي من خطر اليهود، وضرورة العمل على منعهم من دخول أميركا.
ويفرد المؤلف فصلاً عن سرقة اليهود للعبقريات، غير مكتف بسرد وقائع وأحداث، إنما يرد عليها بالحجة والمنطق اللذين لا يخلوان من تهكم على تلك الادعاءات، مثل ذلك رأيه بأن اليهود من بعد موسى أصروا على يهودية المسيح، ومن ثم أتى الدور على النبي العربي محمد الذي هو من سلالة إبراهيم اليهودي. وحتى بوذا هو تنويعة آسيوية على قصة موسى. والبوذية، مثل المسيحية، أخذت الجانب الوعظي من التوراة.
ويرى عدوان أنه ما أن يطلق يهودي ما في موقع علمي أو أكاديمي رأياً مرتجلاً، ولكنه مقصود وذو هدف، حتى يتلقاه آخر ويردده على انه رأي علمي منقول عن عالم. ثم تشتغل الماكينة الإعلامية لتعميم القول ونشره بين الطلاب والمتعلمين غير المتخصصين،
فيتحوّل إلى مسلّمة، وبعدها يسارع أصحاب الشأن للنفي واثبات العكس إذا استطاعوا، أو إذا خطر لهم أن يفعلوا. متسائلاً: كيف لهم أن يلاحقوا المعلومة التي تحولت إلى ركيزة معرفية في ميادين متنوعة، دينية وتاريخية وأكاديمية وإعلامية!؟.
وكتأكيد لرأيه السابق يضرب مثلاً بادعاء اليهود أنهم هم بناة الأهرامات المصرية، وقولهم إن كريستوفر كولومبس مول القسم الأعظم من رحلاته عن طريق مستثمرين يهود، وبعضهم يصل حد القول إن كولومبس نفسه كان ينحدر من أصل يهودي!.
ويشير المؤلف إلى الموسوعات الأكاديمية التي لا تكاد تخلو إحداها من الاستشهاد بأفضال اليهود أو التطرق إلى الثقافة العبرية، كموسوعة «ايروبيكا» والموسوعة البريطانية «بريتانيكا» وموسوعة «الانكارنا»
الأمر الذي يجعل القارئ الأجنبي غير الأوروبي والأميركي يشعر بأن التاريخ مهوّد والمعرفة كلها مهوّدة، وان تاريخ ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط تاريخ يهودي، أو انه لا تاريخ لها إلا عند اليهود، ولليهود وحدهم فضل إيجاده وحفظه!